آفاق حرة
كتبت الشاعرة اميمة يوسف
ربما عليّ بدءًا أن أعتذر من صديقتي وأختي الكاتبة المبدعة عنان محروس لتأخري في قراءة الرواية وقد كنت من الأوائل الذين حظوا بشرف إهدائها لهم.. شغلتني عن ذلك ظروف الحياة ربما رغم جاذبية العنوان ومحبتي الكبيرة للصديقة عنان..
ورغم تهنئتي لك في حفل الإشهار إلا أنني أجدد الآن التهنئة، بحرارة أعلى وإعجاب أكبر وتقدير لهذه الأوراق التي أوكلت (أمر تأويل حروفها لذائقتي عالية الإيقاع) حسب تعبيرك حين أهديتني الرواية.
توجهت إلى رفوف مكتبتي باحثة عنها وكنت أعلم موضعها سابقا فامتدت يدي لتتناولها بخفة، واصطحبتها معي لتكون رفيقتي في حديقتي المتواضعة عصرا.
انتقلت من الإهداء الأنيق الذي يشبه عنان كثيرا في رقتها وإنسانيتها، إلى الشكر المغلف بأوراق الورد لرفيق الدرب، ثم فصول الرواية تباعا بدءا ب (بداية النهاية) وحتى (نهاية البداية)، وصولا إلى (الحقيقة) الكاملة على لسان (مريم).
لم تفارقني الدهشة وأنا أتابع بشغف الأحداث وكأنها تُعرض أمامي على شريط سينمائي أو عبر شاشة كبيرة ثلاثية الأبعاد، لدرجة أنني فكرت جديا فيمن يصلح لتجسيد شخصيات الرواية من الممثلين البارزين المبدعين.
أنهيتها كعادتي مع كتاب أحبه بجلسة واحدة، أتيت على آخرها وقد فرغت منها إليها..
ورغم ذهولي من (الحقيقة) وقد كشفتها شمس (مريم)،إلا أنني احتفظت كمريم أيضا بمشاعري الجميلة تجاه (آدم)؛ ذلك أنه استطاع كما أرادت له الكاتبة أن يكون (إنسانا)، يتنازعه من الشر ما يتنازعه من الخير..
(آدم) بطل الرواية، ولا غرابة أن اختارت له عناننا الذكية هذا الاسم (اسم الإنسان الأول)، والذي كان يعاني نتيجة الظروف القاسية التي عاشها في طفولته مرض الفصام (الشيزوفرينيا). يعكس آدم صورة المعاناة الإنسانية من يتم وفقر وجوع وحاجة وتسول واستغلال وانعكاسات تلك الظروف على نفسية الطفل وسلوكاته ثم نموها معه لتصبح مرضا لا يلحظه حتى الأقربون أحيانا..
صورة البيت المتهالك والذي يشبه إلى حد كبير بيت العنكبوت؛ حيث الأنثى المستبدة تسطو على دور الرجل وتلغي كينونة الأبناء وتلحق الدمار بكل من حولها برعونتها ولا إنسانيتها مخالفة الفطرة التي جبلت عليها..
هذه الصورة رسمتها عنان ببراعة حتى أجبرتنا أن ننقاد بعواطفنا نحو (بهية) نصبها جام غضبنا، ثم نهدأ لنرثي حال الوالد (خيال المآتة)، نثور من جديد ونحن نلمح (عمر) يشي للأم بأسرار من حوله لينالوا عقابهم ويحظى هو بمكافأته، نتعاطف مع معاناة (علي)، ونلعن الظروف التي أجبرت (سلمى) أن تبيع جسدها لتعيش، نحيا كل ذلك في صراعات نفسية يعيشها (آدم)..
نتنفس الصعداء ونحن نخطو مع (آدم) أيضا دروب حياته الجديدة في بيت (الشيخ عماد) وما حققه من نجاحات متتالية لم تستطع رغم تتابعها أن تمحو من ذاكرته خيالات البؤس والتشرد.. وصولا إلى لقائه بمريم وزواجهما رغم اختلاف الدين وعوائق العمر والتفاوت الاجتماعي.
ولا بد هنا من الإشارة إلى براعة (عنان) في طرح الكثير من القضايا المجتمعية الشائكة متسربلة ثوب الأدب وبأسلوب جاذب دون إقحام أو تنفير..
ناهيك عن ذكائها في اختيار المكان (بيروت /صيدا) ليكون مسرحا خصبا للأحداث والصراعات الدينية والطبقية والطائفية والنفسية والتحولات السياسية والفكرية..
تكاملت عناصر هذا العمل الأدبي حدثا وشخوصا ومكانا وزمانا وعقدة ونهاية ودهشة لتشكل رواية فريدة الطرح لطيفة اللغة جميلة ماتعة..
وفي كتابه “جماليات الرواية العليا” يقول إيرفينغ بوخن: “إنّ كون علم النفس حليفاً طبيعياً للرواية هو أنهما كليهما معلقان عند نقطة التقاء العقل بالمادة، والنتيجة هنا أيضاً متبادلة، الرواية تسجل صورة العقل والمادة، وعقل ومادة الصورة”.
ومن هنا استطاعت عنان أن تعقد صفقة من الدهشة بين الأدب وعلم النفس ليكون الناتج هذا الربح الوفير من الجمال على هيئة رواية..
نهاية الرواية المدهشة تنبئ برواية لاحقة أو جزء آخر علينا أن نترقبه في قادم مسيرة الكاتبة الإبداعية.. وأظن أن عنان حينها ستفاجئنا أيضا بقفزة هائلة على سلم الأدب ترقى بها لتبرز كروائية عالمية مرموقة لاسمها وقع السحر وجمالية التخيل وبراعة الأداء.