إعداد: سليم النجار- وداد أبوشنب
” مقدِّمة”
مفردة “السؤال” وحدها تحيل إلى الحرية المطلقة في تقليب الأفكار على وجوهها، ربّما هدمها من الأساس والبناء على أنقاضها، كما أنَّها من أسس مواجهة المجازر وحرب الإبادة التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني في غزّة والضّفّة، من قِبَل الاحتلال الإسرائيلي٠
في هذا الملف نلتقي بعدد من الكُتّاب العرب الذين يُقدِّمون لنا رؤاهم حول ماذا يحدث في غزّة؟
وما يستدعي الدرس والتمحيص والنقاش والجدال والنقد، لأنّ الأشياء تحيا بالدرس وإعادة الفهم، وتموت بالحفظ والتلقين٠
تامر نجم من حي الشيخ رضوان/غزة-فلسطين يكتب لنا من زاويته “ماذا يحدث غزة”؟
غزة علبة كبريت.. وإحنا العيدان اللي جواها.
تامر نجم
مقدمة:
يداه على القلم، ويسرد٠ وفي عينيه تلتفّ طريق لا تبين٠ أفعوان رائحة الشهداء تتمدّد حيناً، ثم تلتفّ ككرة، فيهدأ٠
يداه تتحرّكان جهةَ وجهِ الشهيد، وجهه يشعّ عن صراع طويل، ربّما كان ينتظر صباح جديد، ليخبر عن ليل لا ينتهي٠
يداه تنظم عقد خيط اللّحد، الملفوف على هيئة علم فلسطين٠
يرفع رأسه، في بعض الأوقات فقط، رائحة المسك لجثمان الشهيد ينام بين أحضان شوارع غزّة، هنا كان يلعب عسكر وحرامية، وهناك يحلم بالذهاب للمدرسة، ويغرق في تفاصيل اليدين، لعلّها تخبره عن شيء ما، فجأة عيناه تتبدلان، ولا تفارقان الجثمان، تمسحان المكان، وتتساءلان، ينبت في عينيه المكان والسؤال:
– من سرق الحياة منّا يا تامر؟
– من سرق ذكرياتنا؟
– من سرق الشهيد منّا؟
لا بد أنّه سيعود٠٠٠ صدره عار من كلّ بكاء، وأنا لا بد أن أسرد٠
سليم النجّار
لمّا الحرب قامت على غزّة.. الإعلام كلّه كان مسلّط علينا؛ الجزيرة، والعربية وكلّ الفضائيات مسلطة على غزّة، والاحتلال مش حالل عنّا.. صار كل العالم مطبول بغزّة واللي بصير فيها.. فجأة كتبت الجزيرة خبر عاجل: “استشهاد محمد الهندي…” وهذا الخبر مش عادي.. لأنّه محمد هذا هو أخو أمي.. أوّل مرة بشوف الصراخ بينتقل من البثّ الحي في التلفزيون للبيت.. صراخ وصياح ودموع.. كلّه انخلط في بعضه، وانتقل من البيت للحارة، وأمّي أغمى عليها.. بعد شوي رن التلفون، كان خالي الثاني يتّصل فينا ويحكي لنا إنّه خالي محمد استشهد.. هو مش عارف إنّه كلّ العالم صار يعرف بالخبر.. التلفزيون هادا رهيب.. قبل ما الواحد يتصاوب والرصاصة لسه رايحة على صدره بيكون التلفزيون ناشر الخبر.
بس هاي الأيام، كل المحطات قاعدة بدون شغل.. قاعدين يدعوا لربّهم يبعث كمان حرب على غزّة، عشان الشغل!
المهم صرنا كلنا نبكي على خالي بحرقة ونتذكّره ونحكي عنه.. ظلينا فترة طويلة نحكي عنه. وبدا الكلام يقلّ لأنّه صار الموت في غزّة عادي وأكثر من الكلام.
بعد الحرب بطّلت تفرق معي، أموت أعيش ما يهمنيش، بعد اللي شفناه في الحرب بطّل يهمني إشي. لأنّي بفكر إني اليوم اللي عايشه هذا أكبر مكسب، وكلّ العمر إلّي بعيشه بعد الحرب زيادة لأنّي كان ممكن أموت بأي لحظة.
بتعرفوا؟ قرفت البلد مع إنّي بحبّها، وكمان زهقت الناس.. ساعات بحس إنّي بعرف المليون ونص اللّي بغزّة.. فش إشي جديد، نفس اليوم بينعاد كلّ يوم.. نفسي أسافر، أشمّ هوا نقي أغيِّر شكل ووجوه.. من حدّ ما أصحا الصبح بفتح باب البيت بلاقي عامود الكهرباء في وجهي.. نفسي في يوم أصحا من النوم ما ألاقيش عامود الكهرباء.. وكلّ يوم أبو إبراهيم واقف على باب السوبر ماركت، وعبد تبع الترمس ببيع ترمس وأبو العبد قاعد على باب داره، خايف داره تشرد أو تهجّ.. وأم إبراهيم واقفة مع أم حسن.. وسواقين الخطّ حافظهم بالواحد، وعارف إلى بياخذ على البلد واللّي بوصل ع الشطّ.. إشي بطلِّع الروح والله.
هي الساعة اللي بجيها على تدريب المسرح الوحيدة اللّي بتختلف بحياتي، صارت شغلتي وعملتي، بستناها على نار.. لولا المسرح كان الواحد فقع. نفسي لما أكبر أصير ممثل كبير. من صغري بحبّ التمثيل.. بس أيّ مؤسّسة كنت أروح عليها وأنا صغير كانوا يطردوني بعد كم من يوم.. بس هاي المرّة غير.