سابعاً : اللغة التجريدية:
1 : – في تيماء الفراغ .. !! .. بقلم : هنده السميراني – تونس.
يقول ( هيجل ) : الشعر هو الفن المطلق للعقل , الذي أصبح حرّاً في طبيعته , والذي لا يكون مقيّداً في أن يجد تحققه في المادة الحسيّة الخارجية , ولكنه يتغرّب بشكل تام في المكان الباطني والزمان الباطني للافكار والمشاعر .
مما لاشكّ فيه انّ الموهبة قد تموت وتنتهي بالتدريج اذا لم يستطيع الشاعر تطويرها واستثمارها أقصى إستثمار عن طريق الاطلاع على تجارب الاخرين والاستفادة منها والاتكاء على المخزون المعرفي لديه , وتسخير الخيال الخصب في انتاج وكتابة كتابات متميّزة ومتفرّدة تحمل بصمته الخاصة التي عن طريقها يُعرف ويُستدلّ بها على إبداعه , وقد تموت ايضا اذا لم تجد التربة الصالحة والمناخ الملائم لأنضاجها , وقد تنتهي حينما لمْ تجد مَنْ يحنو على بذورها التي تبذرها ويعتني بها ويُسقيها من الينابيع الصافية والنقيّة , فلابدّ من التواصل والتلاقح مع تجارب الاخرين الناجحة والعمل على صقل هذه الموهبة وتطويرها والاهتمام بها وتشجيعها والوقوف الى جانبها قبل أن تُجهض . نحن سعداء جدا في مؤسسة تجديد الادبية ان نستنشق الان ملامح إبداع جميل وحضور مشرق من خلال دعمنا المستمر للمواهب الصادقة والناجحة في هذا الموقع , فلقد اصبح لدينا الان مجموعة رائعة جدا من الشعراء والشواعر الذين يجيدون كاتبة القصيدة السرديّة التعبيريّة , ونحن لم ندّخر اي جهد في مساعدة الجميع عن طريق الدراسات النقديّة والنشر والتوثيق المستمر في المواقع الالكترونية الرصينة وفي بعض الصحف الورقيّة , وابداء الملاحظات من أجل تطوير وإنضاج هذه الاقلام الواعدة , نحن على ثقّة سيأتي اليوم الذي يشار الى كتابات هؤلاء والاشادة بها والى القيمة الفنية فيها ومستوى الابداع والتميّز وما تحمله من رساليّة فنيّة وجماهيريّة .
فلم تعد قوالب الشعر الجاهزة ترضي غرور شعراء السرد التعبيري لذا حاولوا ونجحوا في الانفلات من هذه القوالب ومن هيمنتها ولو بشكل محدود ( في الوقت الحاضر ) , وتجلّ هذا من خلال طرق كتابة النصّ والموضوعات التي يتطرق اليها , وترسخت فكرة التجديد لديهم وخطّوا لهم طريقا مغايرا في كتاباتهم , وصاروا يواصلون الكتابة وياخذون منحا اخر لهم بعيدا عما هو سائد الان في كتابة قصيدة النثر , صارت القصيدة أكثر حرّية وانفتاحا على التجارب العالمية , لقد منحت السرديّة التعبيريّة لكتّابها الحرية والواسعة والفضاء النقيّ الشاسع والأنطلاق نحو المستقبل خاصة حينما يكون التعبير أكثر شبابا وصدقا عن المشاعر الحقيقية المنبعثة من القلب الصافي كالينبوع العذب , فلقد أحسّ الشاعر بمهمتة الصعبة في الكتابة بهذا الشكل الجديد والمختلف والذي نؤمن به وبقوّة , فنحن نؤمن وعلى يقين بانّ القصيدة السردية التعبيريّة هي قصيدة المستقبل لقدرتها على الصمود والتطوّر المستمر نتيجة التجربة الطويلة والتراكم الابداعي , بروعة ما تقدّمه وتطرحه على الساحة الشعرية , نعم أحسّ الشاعر بالانتماء والاخلاص لهذا اللون الادبي الجديد والذي نطمح في قادم الايام ان يكون جنسا أدبيا متميّزا , لهذا استطاع الشاعر ان يطوّع المفردة رغم قسوتها وعنادها وإعادة تشكيلها وتفجير كل طاقاتها المخبوءة , وأن يفجّر من صلابتها الينابيع والانهار وإستنطاقها نتيجة ما يمتلكه من خيال جامح ابداعي وعاطفة صادقة جيّاشة وإلهام نقيّ وقاموس مفرداتي يعجّ باللغة الجديدة .
سنتحدث اليوم عن صوت المرأة الشاعرة في السرديّة التعبيرية ونختار بعض القصائد كي نشير الى مستوى الابداع وكميّة الشعرية فيها , ونستنشق عبير هذه القصائد النموذجية .
انّ حضور الصوت النسائي في السرديّة التعبيرية له تاريخه المشرق وحضوره البهيّ , فمنذ تاسيس موقع ( السرد التعبيريّ ) كان حضور المرأة الشاعرة متميّزا ينثر عطر الجمال ويضيف ألقاً وعذوبة في هذا الموقع الفريد والمتميّز, وقدّمت قصائد رائعة جدا تناولها الدكتور انور غني الموسوي بالقراءات الكثيرة والاشادة بها دائما , وتوالت فيما بعد الاضاءات والقراءة النقدية لهذه التجارب المتميّزة من قبل بعض النقاد ومن بعض شعراءها . فاصبحت هذه القصائد نوعية مليئة بالابداع الحقيقي وبروعة ما تطرحه من أفكار ورؤى ومفعمة بالحياة وروح السرديّة التعبيريّة وخطّتْ لها طريقاً تهتدي به الاخريات ممن عشقن السرد التعبيري وحافظن على هيبته وشكله وروحه والدفاع عنه . لقد أضافت الشاعرة الى جمالية السرديّة التعبيريّة جمالا آخر وزخما حضورياً وبعثت روح التنافس وحرّكت عجلة الابداع فكانت بحق آيقونة رائعة . القصائد التي كتبتها المرأة في السرد التعبيري كانت معبّرة بصدق عن اللواعج والالام والفرح والشقاء والحرمان والسعادة , بثّت فيها شجونها وخلجات ما انتاب فؤادها , ولقد أزاحت عن كاهلها ثقل الهموم وسطوة اللوعة , ولقد جسّدت في قصائدها آلامها ومعاناتها في بناء جملي متدفق , منحت المتلقي دهشة عظيمة وروّت ذائقته وحرّكت الاحساس لديه . كانت وستظلّ زاخرة بالمشاعر والاحاسيس العذبة ومتوهّجة بفيض من الحنان , نتيجة الى طبيعتها الفسيولوجية والسايكولوجية كونها شديدة التأثر وتمتاز برقّة روحها فانعكس هذا على مفرداتها وعلى الجو العام لقصائدها , فصارت المفردة تمتلك شخصية ورقّة وعذوبة وممتلئة بالخيال وبجرسها الهامس وتأثيرها في نفس المتلقي , فكانت هذه القصائد تمتاز بالصفاء والعمق والرمزية المحببة والخيال الخصب والمجازات ومبتعدة جدا عن المباشرة والسطحية , كانت عبارة عن تشظّي وتفجير واستنهاض ما في اللغة من سطوة , كل هذا استخدمته بطريقة تدعو للوقوف عندها والتأمل واعادة قراءتها لأكثر من مرّة لتعبر عن واقعها المأزوم وعن همومها وهموم النساء في كل مكان . فرغم مشاغلها الحياتية والتزاماتها الكثيرة استطاعت الشاعرة ان تخطّ لها طريقا واضحا وتتحدّى كل الصعاب وترسم لها هويّة واضحة الملامح , فلقد بذرت بذورها في ارض السرد التعبيري ونضجت هذه البذور حتى اصبحت شجرة مثمرة . لقد وجدنا في النصوص المنتخبة طغيان النَفَس الانثوي واحتلاله مساحة واسعة فيها معطّرة برائحتها العبقة واللمسات الحانية والصدق والنشوة , فكانت ممتعة جدا وجعلت من المتلقي يقف عندها طويلا منتشيا , وحققت المصالحة ما بين الشاعرة والمتلقي وهذا ما تهدف اليه الكتابة الابداعية .
اللغة التجريدية :
هي إستعمال اللغة في نقل الأحاسيس والمشاعر وليس الحكاية , فتتخلّى الألفاظ عن وظيفة نقل المعنى الى نقل الأحساس المصاحب له كمركز للتعبير , فيرى القارىء الأحاسيس والمشاعر المنقولة أكثر مما يرى المعنى .
يبقى الشعر من يمتلك مساحة حرّة وشاسعة ومقدرة على التمويه في الخطاب , والأبتعاد عن المباشرة والسطحية في اللغة بسبب لجوءه الى المجاز والخيال والاستعارات والتكثيف والايجاز والايحاء , بحيث يفتح الابواب مشرعة على التأويل وتعدد القراءات , مما ينشيء علاقة ايجابية ما بين الشاعر والمتلقي , والتعامل الايجابي مع النصّ .
في نصّ الشاعرة : هنده السميراني .. في تيماء الفراغ , نرى بوضوح بانّ اللغة تتخلّى عن مفهوم نقل المعنى , وبأنّ التراكيب اللغوية تحاول ان تبلغ والوصول الى نقل الاحساس , وانها تبعث في نفس المتلقي حالة نت التأثير الشعوري والأحساسي , فلا نرى معنى للحكاية للالفاظ , بمعنى ان هذه الالفاظ والتراكيب اللغوية هي من يتولى مهمة التوصيل , انّها لا تحكي معان وانما أحاسيس . ان اللغة التجريدية تتحقق كلما استطاع الشاعر الأنطلاق بالكتابة من العوالم العميقة والرمزية المبتكرة والتحليق الحرّ والعمق البعيد والتوهّج في اللغة . لابدّ من اللغة ان تعبّر عن العوالم العميقة للمعاني والاحاسيس تمتاز بالأشعاع بالاضافة الى فنّيتها وجمالية الرسالية فيها . فنلاحظ مثلا في هذا المقطع ../ على حافة جرف هار،تقف الأماني معصوبة العينين، يبصرها الدّجى تخبط خبط عشواء، تخيّم الحيرة على قلوب ترتعد منها فرائص اليقين رهبة من مصير الحقّ أن يهوي في حفر الأباطيل! ../ , بانّ اللغة لا تهتم للمعاني او ان الاهتمام بالمعنى قليل وبأنّ الاهتمام يكون أكبر بما تمتلكه المفردات من ايحاءات وما تضمره من زخم شعوري , اي اننا امام تراكيب لغوية لا تهتم بتوصيل المعنى بقدر ما تهتم بالشعور والاحساس , اانا امام وحدات شعورية وليست معنوية . /ويطول أمد انتظار أديم الحياة يزهر..تشّقّق شفاه الكلم ولا يرتوي منها ظمأ! يسير الحرف في تيماء الفراغ لم تطأها أقدام الخصب قطّ، يوغل في نائيات الضّياع، يطلق صيحة الفزع ومن رمس النّسيان تبعث الضّمائر الموؤودة ذات حيف وتنفض عنها غبار عجاف السّنين، تشيح بعزمها عن نهر الغواية وتشرب من عين التحدّي لتشهر العصيان على أيد رفعت بالجور ألوية الطّغيان..!! / . وهنا ايضا نجد بانّ مهمة اللغة هو نقل الاحاسيس والشعور اي اننا امام دلالة شعورية أكثر من الحكاية اي الدلالة المعنوية , فمثلا ../ ويطول أمد انتظار أديم الحياة يزهر../ هنا لانجد اللغة تخبرنا عن معنى بقدر ما نحسّه من شعور عميق واحساس يتجلّى بوضوح , وهكذا فانّ اللغة التجريدية نجدها كالألوان المجردة من المعني في اللوحة التجريدية . فـ / الكتابة المبدعة إمكانية كل إمرأة لانه فعل انوثقة – الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار / لهذا فان المرأة / الشاعرة / تمتلك من الطاقات ما يجعلها ان تبدع وتتميّز كما عند شاعرتنا : هنده السميراني .. فلقد استطاعت من خلال كتاباتها في مجموعة السرد التعبيري ان تقدّم لغة شعرية ابداعية متطورة , وان تعبّر عن محنة الانثى اصدق تعبير , وحاولت ان تحجز لها مكانة متميّزة في السردية التعبيرية إضافة الى باقي الأصوات النسائية ممن يجيدن كتابة القصيدة السردية التعبيرية , كون المرأة تمتلك احساسا مرهفا وتمتاز برقّة التعبير .
النصّ :
في تيماء الفراغ .. !! .. بقلم : هنده السميراني – تونس.
على حافة جرف هار،تقف الأماني معصوبة العينين، يبصرها الدّجى تخبط خبط عشواء، تخيّم الحيرة على قلوب ترتعد منها فرائص اليقين رهبة من مصير الحقّ أن يهوي في حفر الأباطيل!ويطول أمد انتظار أديم الحياة يزهر..تشّقّق شفاه الكلم ولا يرتوي منها ظمأ! يسير الحرف في تيماء الفراغ لم تطأها أقدام الخصب قطّ، يوغل في نائيات الضّياع، يطلق صيحة الفزع ومن رمس النّسيان تبعث الضّمائر الموؤودة ذات حيف وتنفض عنها غبار عجاف السّنين، تشيح بعزمها عن نهر الغواية وتشرب من عين التحدّي لتشهر العصيان على أيد رفعت بالجور ألوية الطّغيان..!!
ويطول أمد انتظار أديم الحياة يزهر..تشّقّق شفاه الكلم ولا يرتوي منها ظمأ! يسير الحرف في تيماء الفراغ لم تطأها أقدام الخصب قطّ، يوغل في نائيات الضّياع، يطلق صيحة الفزع ومن رمس النّسيان تبعث الضّمائر الموؤودة ذات حيف وتنفض عنها غبار عجاف السّنين، تشيح بعزمها عن نهر الغواية وتشرب من عين التحدّي لتشهر العصيان على أيد رفعت بالجور ألوية الطّغيان..!!