في قصيدته الطويلة نسبياً (ما أنا بقارئ) نلمح ا الغموض والهلوسة في حوار طويل مع الذات التي لم تصل إلى مرتبة النبوة فهي لم تحفظ الوحي أو أنها حفظته ونسيته مما أدى إلى فشل النبوة ولم تحقق الخلاص : أريد أن أدفنه في راسب تراكم من نثيث نافور اكلّله نتف ثلج استوائي من هو هذا الذي تحار الذات الشاعرة كيف تدفنه وتحتفي بعملية التأبين فتختار نثيث الرياحين قبراً له ونتف الثلج. من هذا الراحل ليكون تأبينه باذخاً ،أهو النّبيّ الذي فشل في تلقي الوحي : الغراب الذي دفن نفسه نسيَ ذاته خارج الحفرة يزعم هذا النبي أن الغراب لم يُعَلِّم قابيل كيف يدفن أخاه ،بل علّمه كيف ينسى ذاته خارج القبر مما يلمّح إلى التعارض مع الموت ،فالغراب دفن جسمه دون ذاته : كلّنا ذوات منسية لو أن الغراب دفن ذاته لما كنا من المنسيين ،وبذلك نكون سلالة النسيان .هذا ماجناه علينا الغراب وهذه هي آيات النبي الجديد التي يدين بها وجوده ووجودنا : سلمونات تعي العودة الولادة لا خيار لنا فيها يتكرر الاحتجاج على وجودنا الإنساني ، وما يعتريه من مصادرة وتهجير وفقر ليشير دال (السلمونات) إلى العبودية التي تهدر إنسانيتنا وقدرتنا على الإبداع وهذا السياق يكشف عن احتجاج الذات الشاعرة وتذمّرها من الموت والغياب الذي عرفناه في قصة الغراب ،الذي علّم الإنسان الموت ،أو كيف يدفن الميت فاتحاً فصل الموت الطويل لبني البشر والمهمش الذي يظهر على شكل نبي تخلت عنه سماؤه بحجبها الوحي ،فلم يستطع المهمش أن يلتقط شيئا مما أوحي إليه فيعود إلى زوجته فلم تدثره ولم يرتجف ؛مما يلمّح إلى أن الإنسان العربيّ عبَر مرحلة الميتافيزيقا وعليه أن يصنع خوارقه ومعجزته وعبوره دون الاعتماد على الغيبيات وأن يكتشف طريق العودة بخرائطه متجاوزاً زمن السلمون، والغموض لا يظهر الاّ في بداية القصيدة الذي يشير إلى موت المخلص حيث يُشيّع بنثيث النافورات ؛لتبدأ أسئلة الإنسان وتفتيشه عن الخلاص وتبدو الذات الشاعرة لا تنتظر عودة الفادي أو المهدي، تاركة لسيزيف العرب أن يوصل حجارته إلى القمة لكن بعد أن يخطط لذلك فلا يأوي إلى جبل ليعصمه من الماء بل يأوي إلى الماء إلى الفيضان ليغسله من درن الأرض والملح والكره ؛لتنحصر النبوة في ذاته : ابتكارُ نبيّ فاشلٍ.. ليكون رسولاً إلى نفسه كافة أراد الشاعر أن يوجز فكرة فحواها أن زمن الفارس الأوحد والشاعر الأوحد والمخلص الأوحد قد انتهى، وما صورة المخلّص مسجّى على نثيث النوافير في مطلع القصيدة الّا إشارة إلى انتهاء زمن الكرامات والماورائيات ومجيء زمن الإنسان ولا يعني ذلك إن الذات لشاعرة تضرب القطيعة حول النبوة والتراث والرسالة العربية بقدر تدعو إلى إحيائها بأن يُصلح كل منا ذاته ويكون مخلّصها ومنقذها ومبدعها، وللمتلقي واسع التأويل.
بقلم : الدكتور أحمد شهاب