بقلم: منال الشربيني
أما قبل،
حين وقعت عيني للوهلة الأولى على بعضٍ من متْن الرواية قرأت:
“…وكانت الطفلة كلما سألت أباها بعد خروجه من المعتقل عن السبب في حبسه..يضحك ويقول..هوه عبدالناصر ساب حد ما حبسوش يا بنتي..اسألي عم محمد بتاع كراسي البامبو .. حبسوه ليه.. قال إيه بيكتب شعر يحرض الناس على كراهية النظام.. بالذمة ده كلام.. مش عارف أقولك إيه.. أنا أيامها لا كنت مناضل ولا يحزنون..والحكاية بصراحة.. إن واحد من البصاصين بتوع التنظيم الطليعي..ودول كانوا منتشرين زي الطاعون في كل مكان ، وكان من بينهم مدرسين وموظفين عندنا في المدرسة شاف معايا مرة كتاب “رأس المال” لكارل ماركس.. كان عمك ادهولي مع كتب ثانية لتروتسكي وناعوم تشوميسكي.. وروايات لجوركي وتشيكوف وتولستوي.. المهم أخينا راح بلغ الكلاب اللي مشغلينه..وجم زوار الفجر خبطوا علينا بعد نص الليل .. وفتشوا الشقة حتة حتة.. وطبعا ما لاقوش غير الكتب بتاعة عمك..وجرجروني معاهم ع القسم .. وبعد ما قضيت كام يوم في الحجز رحلوني على سجن مزرعة طرة.. وهناك لاقيت نفسي وسط مثقفين من كل ملة ودين.. اللي ماركسي واللي إخوان واللي بوهيمي..واللي ليبرالي..وناس كتير تانية مالهاش في الطحينة.. خدوهم من الدار للنار لمجرد وشايات حقيرة.. ما حدش وقتها في أمن الدولة كان فاضي يتأكد منها.. وموت يا حمار لما يكتشفوا إن واحد من المعتقلين من إخواننا بتوع الأتوبيس .. ماهوه الفيلم بتاع عادل إمام وعبدالمنعم مدبولي ده قصة حقيقية كتبها الصحفي جلال الدين الحمامصي .. وناس كتير فعلا من اللي كانوا معانا في طرة كانوا من نوعية بتوع الأتوبيس .. لكن إن جيتي للحق أنا استفدت جدا من فترة الإعتقال واتعلمت حاجات ما كانش ممكن أعرفها لو قريت ألف كتاب..ودخلت في مناقشات فتحت عيني على حاجات كتيروعرفت الدنيا في مصر ماشية إزاي..”
فكان لابد لي من وقفة هنا، بين العامية و الفصحى، إذ تُعتبر العامية المصرية مزيجًا لغويًا غنيًا، تأثرت بلغات عديدة عبر التاريخ مثل اليونانية واللاتينية والتركية والإنجليزية، مع الاحتفاظ بجذورها العربية. على الرغم من الاختلافات في بعض الأنماط اللغوية، إلا أن العامية والفصحى تشتركان في الكثير من المفردات وبنية الجملة الأساسية، مثل “يعني” و”يعاني” مشتركة بين العامية والفصحى، وكلاهما يتبعان نمطًا مشابهًا في تصريف الأفعال (مثل “يمشي” و”مشت” في الفصحى، و”جه” و”جيت” في العامية)، وتُظهر العديد من الكلمات العامية المصرية، مثل “واوا” و”بَص”، أصولاً مشتركة مع اللغة المصرية القديمة، حيث تحمل نفس المعاني أو معاني قريبة منها ، وتشابهاً في النطق مع المصرية القديمة، حيث حدثت تغيرات صوتية في بعض الكلمات، مثل تحول “ق” إلى “ء”، و”ذ” إلى “ز”، و”س” إلى “ث”، و”ل” إلى “ن”، و”ظ” إلى “ض”، و”ق” إلى همزة، وهنالك العديد من الكلمات العامية المصرية، خاصة في الصعيد، ذات صلة قوية باللغة المصرية القديمة، مما يدل على استمرارية لغوية تمتد لآلاف السنين. فكلمات مثل “شأشأ الفجر” و”عيش باش” و”كوش” و”سك الباب” وغيرها، ما زالت تحمل معاني قريبة جدًا أو مطابقة تمامًا لما كانت تعنيه في المصرية القديمة.
وبينما تحمل الفصحى إرثاً كلاسيكياً، تعكس العامية المصرية تطور اللغة وتأثرها بالبيئة المحيطة، ويظهر هذا التنوع اللغوي جلياً في رواية “رقصة اللبلاب” حيث يتم توظيف كل لغة بما يتناسب مع السياق، مما يعكس حيوية اللغة العربية وتأقلمها مع مختلف الأزمان والأمكنة.
يعكس العنوان دلالات كثيرة منها، الوصولي، المتسلق، المتشابك، المهجور، المظلم،إذ يرمز اللبلاب إلى العلاقات المتشابكة، والاعتماد، والنمو، والظلام، والأسرار، ودورة الحياة والموت. لكنه أيضًا يشير إلى الحركة، والتأثُّر، والتأثير.
أما بعد،
ملخص الرواية :
بدايةً من العنوان؛ تعتمد دلالة العنوان الدقيقة، “رقصة اللبلاب”، على السياق العام للرواية وأحداثها وشخصياتها. فمثلاً، يرمز اللبلاب إلى علاقات عائلية، أو مجتمعية، أو سياسية، معقدة، أو إلى صراع بين الماضي والحاضر؛ يغلب عليها الأسى النفسي، ومحاولات الخلاص من أعباء الماضي بما له وما عليه.
تغوص الرواية في أعماق المجتمع المصري، مستكشفة تأثير الأحداث السياسية والاجتماعية على حياة الأفراد. تدور أحداثها حول عائلة تعاني من جراح الماضي، وتتناول الصراعات الداخلية التي يعيشها أفرادها. تقدم الرواية صورة بانورامية للمجتمع المصري في منتصف القرن العشرين، حيث تتداخل الأحداث الشخصية والتاريخية والسياسية. تسلط الضوء على تأثير الصراعات السياسية على حياة الأفراد العاديين، وكيف يستغل البعض هذه الصراعات لتحقيق مصالحهم الشخصية. من خلال شخصية “عفاف”، التي تعاني من صراعات نفسية واجتماعية، نرى كيف أن الأحداث المأساوية في الأسرة؛ استهتار الأم ومعاقرة الخمر واعتقال الأب، تؤثر بشكل عميق على حياة الأفراد وتدفعهم لاتخاذ قرارات قد تكون مؤلمة. تستكشف الرواية العلاقة المعقدة بين الأجيال والصراع بين الأهداف الشخصية والسياسية. تلعب وسائل الإعلام دورًا حاسمًا في تشكيل الرأي العام، حيث يمكن أن تكون أداة للتمكين أو أداة للسيطرة والتلاعب. في المجمل، تقدم الرواية قراءة عميقة للمجتمع المصري المعاصر، تكشف عن تناقضاته ومعاناته، وتدعو القارئ إلى التفكير والتفكُّر في الواقع المحيط به.
أرصد هنا أن الشخصيات الثانوية في الرواية لعبت أدوارًا مستهلكة، تجذب القاريء المستهلك المغرم بقصص فتيات الليل، والزواج العرفي، والأبواب الخلفية، كما تغازل السوق التجاري الذي لا هم له إلا حكايا الساقطات، والحانات وما إلى ذلك، ولكن الرواية تذهب بحنكة إلى ما هو أبعد من ذلك..
بأسلوب أدبي سلس عميق، ترسم الرواية لوحة حية لمعاناة شريحة من المجتمع المصري، اتخذت من الفقر ذريعة للانحراف، بينما كان سلوك الأم غير السوي تجاه، وأمام ابنتها أول سوأة كشف عنها مطلع الفصل الأول في الرواية.
حول قراءتنا الرواية:
نظرًا لتركيزها على الصراعات النفسية والشخصية، كان للنقد النفسي في تحليل دوافع الشخصيات وتطوره دورٌ لا ينبغي إغفاله، واتخذت من النقد الاجتماعي أداة مناسبة لتحليل العلاقات المعقدة بين الفرد والمجتمع. نظرًا لارتباط الرواية بشكل وثيق بالأحداث التاريخية، اتخذ النقد التاريخي طريقَه سربًا إلى كيفية تشكيل الأحداث لوجدان الشخصيات وتطور الأحداث داخل الرواية.أما النقد النسوي ، فكان رئيسًا حين تحليل تجربة “عفاف”، كونها شخصية رئيسية، و”أمها”، التي أرى أنها شخصية هامشية في ظاهر الرواية، رئيسية كمحرك أساسي، ومؤثر رئيسي في إشعال نار هذه العائلة، ما ينعكس سلبًا على المجتمع ككل. واخترت النقد البنيوي لأقف على بنية الرواية وكيفية تفاعل العناصر المختلفة لتكوين المعنى الكلي. وأخيرًا، نظرًا لاستخدام الرموز والألغاز، ساعدني النقد الرمزي في فك شفرة المعاني المستترة في النص. باختصار، يمكن القول إن هذه النظريات الأدبية المتنوعة تقدم أدوات تحليلية قوية لفهم أعماق رواية رفعت، م. (2023)،”رقصة اللبلاب”، وتقدير قيمتها الأدبية، إذ تهدف هذه الدراسة إلى دراسة الرواية مقارنة بالنظريات الأدبية بهدف الكشف عن معانيها الخفية، وتقييم جودتها الفنية، وإبراز أهميتها الاجتماعية والثقافية.
يقول رفعت، م. (2023):
” شىء ما كان يذكرها دائما بواقع ترفضه، وأيام تريد أن تنساها…شئ يفضحها ويعريها أمام نفسها..وحلم يتكرر كل ليلة بنفس التفاصيل..أمها تشدها من شعرها وتجرَّها على سلالم العمارة الفاخرة…
…والأم تصرخ..ساقطة..ساقطة..وتقوم “عفاف” من النوم مفزوعة والصداع يكاد يدمر رأسها … ”
” الساقطة”، اللقب الذي اعتادت سماعه من أمها، ويكفي أن تشكل في وعيها البكر هذا القبح، وتأذت روحها بنعت لم ينخلع عن روحها طيلة حياتها، بالإضافة إلى طفولة مزقها الفقر واعتقال الأب، الفراغ الروحي والعاطفي ومعاناتها في عدم تحقيق السعادة التي كانت تتمناها يومًا، بهذا نَلِجُ إلى عالم رواية رفعت، م. (2023). رقصة اللبلاب.
كان للرمز ، دور البطولة مع أول صفحات الرواية، إذ يمثل الحلم المتكرر عن الأم والعار، منطقة اللاوعي، الواعي جدًا، الذي يحاول جاهدًا فهم حالة الوعى فيه. ويرمز الشَّعر إلى الهوية، والأم تمسك بشعر عفاف كمحاولة للسيطرة عليها وتشويه هويتها. وترمز السلالم: إلى الصعود والسقوط معًا، ويرمز الويسكي والمهدئات، إلى محاولة الهروب من الواقع المؤلم، ولكنها أمور تزيد ” الطين بلَّة”. وهنا، نرى رسالة قوية يوجهها الكاتب إلى منطقة اللاوعي الواعي جدًا في القاريء المتفاعل حول أهمية في تشكيل حاضرنا ومستقبلنا. على الصعيد النفسي، والمشهدي، نجح الكاتب في نقل مشاعر القلق والخوف والمعاناة التي تعيشها عفاف.
ويقول:
“… وتتذكر أنها كانت وهى لم تتعد بعد الثالثة من عمرها تستيقظ علي بكاء والدتها التي لم تكن تجد في البيت ما تطعمهما به ،هي وشقيقها “فريد” بعد اعتقال والدهما …بتهمة الإنتماء لتنظيم شيوعي …”
” … وإذا حل موعد الغداء كانت تخرج بهما مرة أخرى لزيارة إحدى قريباتها في البلدة، أما العشاء فهو الوجبة الوهمية..مجرد شاي يغمسون فيه لقيمات من الخبز الذي تعده الأم بنفسها في الفرن كمخزون استراتيجي لمواجهة أي طارئ…”
وعلى صعيد ما يعتمل في صدرها من آثار الماضي المؤلم، تُشكِّل شخصية “عفاف” تشكل معادلًا موضوعيًا لكثير من الشخصيات الأدبية التي تحمل أعباء ماضي مؤلم يؤثر على حاضرها ومستقبلها، مثل شخصية “جان فالجان ” في رواية “البؤساء” لفيكتور هوغو إذ تجمع أعباء الماضي المؤلمة التي تلاحقهما وتشكل صراعات داخلية عميقة بين شخصيتي جان فالجان وعفاف في حمل أعباء الماضي التي تؤثر على حياتهما، إلا أن يختلفان من حيث التجربة الحياتية والظروف الاجتماعية؛ يرمز فالجان إلى الكفاح من أجل الفداء، بينما تحمل شخصية عفاف تفاصيل أكثر خصوصية مرتبطة ببيئتها الثقافية.
ويقول:
” وكانت الطفلة الصغيرة ترقب تصرفات أمها التي فقدت وقارها وحياءها تحت تأثير الخمر..وتراقب انفعالات أبيها الباهتة وتتذكر عمها الغائب دائما عن الوعي والغارق في السكر حتى أذنيه ..وتتذكر اليوم الذي دخل فيه البيت سكران طينة ..وحاول أن يضاجع أمها ..وهى ترقد بجانبها في السرير..بينما يرقد أبوها في حجرة أخرى مثل القتيل،”
أي ماضٍ هذا الذي يقبع في ذاكرتها؛ طفلة تئن تحت وطأة إدمان أمها وعنف أسرتها، محبوسة في سجن منزلي، تشهد انهيار أسرتها وتفقد طفولتها. أي ذكريات تركتها هذه الأم في مخزون اللاوعي عند ابنتها كي تتسلح به ضد الأيام، وأي عائلة هذه التي تفقد فيها طفلة ككل معانًٍ للأمان، العفة، الكرامة، والأمانة؟!
ويقول:
“… “… وتقوم “عفاف” من النوم مفزوعة والصداع يكاد يدمر رأسها ..وتتناول بسرعة حبة مهدئة من نوع دواء تعودت عليه، وأدمنته منذ أن كانت لا تزال طالبة في ثانوي..ثم تنهض بسرعة إلى البار وتتناول كأسا من الويسكي ..لعلها تهمد وتنام”
كل هذه المشاهد شكلت وجدانها، ووعيها الطفل، ومن باب ” البنت لأمها”، تلجأ “عفاف” هي الأخرى، إلى الكحول والمهدئات للهروب من واقعها المؤلم. لكن، مع سير أحداث الرواية، نقر أنها في رحلة بحث لا نهاية لها عن هويتها وذاتها، لكن، على الرغم من معاناتها، حققت عفاف نجاحًا اجتماعيًا مرموقًا، وتبقى حادثات جسام تتمثل في وصمِها بـ ” الساقطة” وشدها من شعرها، ورمز السلالم، تجرح قلمي، وتتوسل لأمها أن تترك لها ماضٍ يحملها، لا تحمله وتنوء بحمله. ورأيتني أردد: ” رفقًا بالقوارير”. ولكن، ” عفاف” اليوم، هي “عفاف” كل يوم، في العديد من القصص الواقعية.
ويقول:
“…وكانت الطفلة كلما سألت أبيها بعد خروجه من المعتقل عن السبب في حبسه..يضحك ويقول..هوه عبدالناصر ساب حد ما حبسوش يا بنتي..اسألي عم محمد بتاع كراسي البامبو .. حبسوه ليه.. قال إيه بيكتب شعر يحرض الناس على كراهية النظام.. بالذمة ده كلام.. مش عارف أقولك إيه.. أنا أيامها لا كنت مناضل ولا يحزنون..والحكاية بصراحة.. إن واحد من البصاصين بتوع التنظيم الطليعي..ودول كانوا منتشرين زي الطاعون في كل مكان ، وكان من بينهم مدرسين وموظفين عندنا في المدرسة شاف معايا مرة كتاب “رأس المال ” لكارل ماركس .. كان عمك ادهولي مع كتب ثانية لتروتسكي وناعوم تشومسكي .. وروايات لجوركي وتشيكوف وتولستوي …
…وعرفت الدنيا في مصر ماشية إزاي.. وقابلت ناس من تيارات تانية ما كانش ممكن اتعرف عليهم في ظروف طبيعية وخصوصا الإخوان ..”
هنا، يتحول حدث اعتقال الأب في الرواية من حادثة عابرة إلى نقطة تحول عميقة، حيث يتحول السجن من مكان للعقاب إلى مكان للتعلم والتطور، مما يدفع الأب إلى اكتشاف أهمية الفكر الحر والتبادل الثقافي. وبالتالي، فإن الرواية لا تقتصر على سرد قصة شخصية، بل تقدم نقدًا لاذعًا للنظم السياسية القمعية، مؤكدًا على أهمية المعرفة في مواجهة الظلم. ويعكس فشل الأب في نقل تجربته السياسية إلى ابنته بسبب التعميم والتهرب من الإجابة المباشرة، فشل الأجيال في نقل المعرفة والتجارب بشكل فعال.
ثم يفاجئنا الراوي بقوله على لسان ” شوكت”:
” ..إن واحد من البصَّاصين بتوع التنظيم الطليعي..ودول كانوا منتشرين زي الطاعون في كل مكان ، وكان من بينهم مدرسين وموظفين عندنا في المدرسة شاف معايا مرة كتاب “رأس المال” لكارل ماركس..”
يركز الكاتب هنا على فترة تاريخية مظلمة سادت فيها الرقابة الشديدة على الأفكار والمعتقدات. كانت مجرد امتلاك كتاب معين كافٍ للاعتقال، مما خلق جوًا من الخوف وعدم الثقة بين الناس. استخدمت السلطات هذه الرقابة لقمع أي صوت معارض والسيطرة الكاملة على المجتمع. كما كشف النص عن وجود تضارب في المصالح واستغلال البعض للظروف لتحقيق مكاسب شخصية.
ويقول:
” … لكن إن جيتي للحق أنا استفدت جدا من فترة الإعتقال واتعلمت حاجات ما كانش ممكن أعرفها لو قريت ألف كتاب..ودخلت في مناقشات فتحت عيني على حاجات كتير وعرفت الدنيا في مصر ماشية إزاي…”
هنا نرى كيف يتحول السجين من ضحية إلى متعلم، إذ استطاع أن يجد في محنته فرصة للنمو والتغيير.
ويقول:
” …وقابلت ناس من تيارات تانية ما كانش ممكن اتعرف عليهم في ظروف طبيعية وخصوصا الإخوان .. وزي ما تقولي كده فترة الإعتقال رفعت من أسهمي في عين عمك ..وبعد ما كان بيسخف كلامي دايما في أي مناقشة تدور بيننا .. ابتدى يحس إن جوايا ثورجي حقيقي ..وهوه اللي عرفني على المجموعة بتوع اليسار…”
تُبرز تجربة الاعتقال في النص تحولًا جذريًا في شخصية الراوي، فقد أتاح له الاعتقال فرصة للتفاعل مع أناس من خلفيات فكرية مختلفة، مما غرس فيه وعيًا سياسيًا أعمق وأثر على نظرة الآخرين إليه. كما اكتشف الراوي جوانب خفية من شخصيته؛ الشعور بالظلم والرغبة في التغيير، مما دفعه للانخراط في تيارات فكرية جديدة كحزب اليسار .
ويقول:
“…وهو كان بدأ اسمه يلمع في عالم الصحافة والأدب وخصوصا بعد الرواية الوحيدة اللي كتبها قبل ما يموتوه من الكمد والغدر..”
تسلط حادثة اغتيال أخ شوكت الضوء على خطر إسكات الأصوات المعارضة في المجتمعات المستبدة، وتجسد الحسرة على ضياع موهبة، وفشل المجتمع في حماية الحريات.
لكنه يعود ليقول:
“… ..بازعل أوي من نفسي لأني كنت شايل من أبويا عشان فضل أخويا إبراهيم عليا ..وخلاني أسيب التعليم بعد البكالوريا وباع نص حتة الأرض اللي حيلتنا عشان إبراهيم يسافر ياخد الدكتوراة من روسيا..وأنا أفلح وازرع الأرض .. واهو لا إبراهيم عمل حاجة بالدكتوراة.. ومات قبل أبويا نفسه ما يموت.. ولا أنا بقيت فلاح.. ولا الأرض استنت…”
هنا نرى عائلة تعاني من جروح عميقة بسبب الظلم والتفضيل. الأب، لقد أصبح الظلم الذي تعرض له “شوكت” من والده ميراثًا انتقل إلى ابنته “عفاف”.
ويقول:
” …وظلت الأم تتطوح من بلد إلى بلد وراء زوجها الذي كانوا يكثرون من نقله بين المدارس الفنية الصناعية في المحافظات، عقابا له علي مجاهرته بأفكاره اليسارية ؛رغم أنه كان يردد كلمات، لا يؤمن بها في الحقيقة، بل ولم يكن يفهم معظمها، ولم تكن ثقافته السماعية تسعفه كثيرا على فهمها ؛وكل ما كان يحركه هو محاولاته المدفوعة بالإحساس بالضآلة والدونية لأن يزايد علي شقيقه المدلل الذي عاد من بعثته الدراسية ليلقن أخيه الأكبر مبادئ الشيوعية ..ويحدثه عن الفردوس الذي يعيش فيه الناس في الإتحاد السوفييتي في ظل الحكم الشيوعي ..وعن الإشتراكية والعدالة الإجتماعية وأفكار ماركس ولينين …”
هنا نرى جانبًا من الرواية يسلط الضوء على حقبة تاريخية مظلمة، فيها الحريات الفردية مقيدة والتفكير النقدي مكبوت. كما يقدم لنا الكاتب تحليلاً نقديًا للآثار السلبية للرقابة والتجسس على المجتمع، وكيف أنها تساهم في تدمير الثقة بين الأفراد وتقويض روح التضامن.
ويقول:
” … فقد كان هؤلاء المخبرين هم الآخرون لا يفهمون شيئا في السياسة.. ومعظمهم كانوا أنصاف متعلمين يتم تلقينهم بأفكار سوداء عن أعداء الثورة الذين يريدون أن يحرقوا هذا الوطن، ويهدوا البلد على من فيه…”
هنا، نرى كيف يرصد الكاتب تعمُّد الأنظمة القمعية إلى اتخاذ المخبرين كأداة ردع تخلق جو من الخوف والسيطرة على الناس ومنع أي معارضة.
ويقول:
“… وبرغم المجموع الكبير الذى حصلت عليه “عفاف” فى الشهادة الإعدادية، كانت حزينة جدا ولم تستطع أن تمنع نفسها من البكاء لأن ( ليلى) ابنة عمتها حصلت على مجموع يفوقها بخمسة درجات .. وصممت على أن تنتقم منها ، وحاولت فى البداية أن تقنعها بأن الحجاب الذى ترتديه يخنقها ويخفى جمال شعرها وهى صاحبه أجمل شعر فى العائلة ،ولكن حين صارحتها ابنة عمتها بأن أمها تتهم أخيها “شوكت” علنا بالكفر، وتقول ذلك أمامه ، وخاصة حين يسخر من حجابها وينتقدها لأنها تفرض على بناتها الحجاب بمجرد الوصول إلى سن البلوغ .. تحول الموقف بالكامل إلى الاتجاه المعاكس … ”
هنا يتبين صراع هوية معقد تعيشه “عفاف”، حيث تتضارب رغبتها في التعبير عن ذاتها مع الضغوط الاجتماعية والدينية، خاصةً حول مسألة الحجاب. تبرز القصة تأثير الأسرة والمجتمع في تشكيل هوية الفرد، وتطرح تساؤلات حول حرية الاختيار ودور الدين في حياة الشباب.
ويقول:
(..وذهبت بها إلى لقاء مع مجموعة من أصدقائها اليساريين على مقهى “زهرة البستان” فى وسط القاهرة، وهناك سمعت الطالبة القادمة من أشد المناطق الريفية بؤسا وفقرا كلاما كثيرا عن الإستغلال الرأسمالى…
…وبعد نهاية السهرة على المقهى، اقترح أحد أصدقاء “عفاف” أن يدعوهم على عشاء “فول وطعمية” فى الغرفة التى يستأجرها فوق سطح أحد البيوت فى العمرانيه الغربية. وحين تنبهت الفتاة الريفية المغدورة فى شرفها…
…ولكنها لم تجد أمامها سوى أن تستسلم فى النهايه لرغبه صديقتها وأصحابها بقضاء الليل فى غرفة الشاب الأعزب…
…وبعد الأكل بدأ لف سجائر البانجو.. وناول واحدة منها ل “انتصار” وهو اسم الفتاه الريفية…
.. وتركت “انتصار” بمفردها مع اثنين من الشبان اليساريين..
…وفى الصباح سألتها إن كانت عذراء ..فقالت لها وهى لا تدارى ضحكتها ماتخافيش يا أختي .. ماالحال من بعضه ! )
إن قراءة أولية للعبارات السابقة، تكشف صراع هوية “عفاف” في سياق الحركات الطلابية اليسارية في مصر السبعينيات، إذ تعكس شخصيتها حالة الشباب المثقف الذي يبحث عن التغيير، لكنه ينجرف وراء تيارات متطرفة، و تكشف الأحداث استغلال هذه الحركات للشباب لتحقيق أهداف سياسية ضيقة، مستخدمة رموزًا مثل الحجاب والسجائر للتعبير عن صراع الهوية والتأثيرات الثقافية المتضاربة، وهنا، ترمز “عفاف” إلى شريحة واسعة من الشباب الذين ينجرفون وراء هذه التيارات، متأثرين بالصراعات الداخلية بين الهوية الشخصية والقيم الاجتماعية.
ويقول: “.. ورغم فارق السن الكبير بينهما .. فقد كانت عفاف متعلقة بأخيها الوحيد إلى درجة الجنون.. وكانت ترى فيه الأب والأخ والصديق الذى تثق فيه وتحبه بإخلاص.. .
…لكن “فريد” ظل – بعد أمها- هو الإنسان الوحيد فى العالم الذى تتودد إليه بدون مصلحة مباشرة..
… لكنها كانت تشعر بغيرة شديدة من تلك البنت المحجبة المتخلفة التى أصر على الزواج منها، رغم اعتراض أبيه.. الذي قال له مستنكرا هذا الاختيار.. “يعنى يبقى أبوك شيوعى وتروح تتجوز بنت أبوها بيقضى نص وقته يتلطع على الجوامع… ”
تتناول الرواية هنا علاقة شقيقة بأخيها الأكبر، حيث تتجاوز هذه العلاقة حدود الأخوة لتصل إلى مستوى العشق والتعلق المرضي، وهو ما يشبه “عقدة أوديب “. تتأثر هذه العلاقة بغياب شخصية أبوية قوية في حياة الفتاة، مما يدفعها للبحث عن الحماية والأمان في أخيها. يسلط النص الضوء على الصراعات الأسرية والاجتماعية التي تنشأ بسبب الاختلاف في القيم والمعتقدات، وخاصة حول قضايا النوع والسياسة، كما تكشف التنمر الاجتماعي ضد المرأة المحجبة. وتنتهي القصة بتسليط الضوء على الطبيعة المعقدة للزواج في المجتمعات المعاصرة، وكيف يمكن أن يتأثر بالعوامل الاجتماعية والسياسية.
ويستطرد:
” …وبدأ يشترى كتبا يقرأها ثم يهديها لها، لكنه لم يكن يفهم شيئا من معظم هذه الكتب…
… وما لم يعرفه سوى بعد فترة طويلة من علاقته بعفاف، أنها كانت هي الأخرى “مدعية” ثقافة وسياسة… وكل ما تعرفه لا يزيد عن حفظ مجموعة من الشعارات والجمل المأثورة للينين وماركس وتروتسكى ونعوم تشوميسكى ..وأبيات لأمل دنقل ..وقصائد لأحمد فؤاد نجم ..وخصوصا قصيدة (جيفارا مات) … ”
هنا نرى نقدًا لاذعًا للثقافة السطحية الزائفة التي تنتشر في المجتمع، حيث يظهر أن مجرد حفظ الشعارات والأفكار لا يكفي لبناء ثقافة حقيقية. كما يسلط الضوء على أهمية الفهم العميق والقراءة النقدية في بناء شخصية مثقفة قادرة على الحوار والتفاعل مع الآخر،
وهنا يقول الراوي:
” وشعرت عفاف أنها في اللحظة التي تخلصت فيها من أي رباط رسمي يجمعها بزوجها الأول ..فقد تخلصت في نفس الوقت من كل ما يربطها بالبلد… ”
يصور النص الانفصال كصدمة عميقة تؤثر على هويتها وشعورها بالانتماء، مما يدفعها إلى صراع داخلي وبحث عن هوية جديدة.
ويقول:
“.. واكتشفت عفاف أن معظم من يطلقون على أنفسهم لقب المعارضين قد نشأوا وتربوا فى أحضان السلطة ..واختاروا أن يكونوا على يسارها ، وأن يرتزقوا من معارضتها وانتقاد سياساتها ..وبعضهم يقبض من دول أخرى عن نضاله .. والبعض يقبض الثمن من أموال المعونة الأمريكية المخصصة لمنظمات المجتمع المدنى والجمعيات الحقوقية ، والجمعيات التى تراقب الانتخابات وبعض رموز التيارات السياسية وأحزاب المعارضة ، والبعض الآخر يقبض من جهات آخرى غير معلومة فى الداخل والخارج …
…ويخدعون الناس بالكلام عن المعاناة وأزمة الرغيف والبطالة وعدم الانتماء..والحقيقة أن غالبيتهم كذابون .. أفاقون ..منافقون …”
هنا ينتقد النص بشدة الصورة النمطية السائدة عن المعارضة السياسية، ويرى أنها مبالغ فيها وغير عادلة، مشيراً إلى أن اتهامات مثل الازدواجية والاستغلال السياسي موجهة بشكل عام دون تمييز، وأنها قد تستخدم أحياناً لتشويه سمعة المعارضة الحقيقية. كما يشدد النص على أهمية تحليل هذه الاتهامات بشكل نقدي، وعدم قبولها بشكل أعمى، مع ضرورة مراعاة السياق العام والأدلة المتاحة لتقييم مدى صحتها.
ويقول:
“…وأصبحت عفاف تعيش فى شقة عز معظم أيام الأسبوع..هي تطبخ له وتغسل ملابسه، وتطفئ ظمأه الجنسي ..وهو يعيد صياغة موضوعاتها بأسلوبه الصحفى الرشيق ..
…ولمع اسمها بسرعة فى عالم الصحافة بفضل أفكار وصياغات “عز” ..
يكشف السرد هنا علاقة غير متوازنة بين امرأة طموحة ورجل ذو نفوذ في مجال الصحافة، حيث تستغل هذه العلاقة موهبة المرأة لتحقيق مصالح الرجل مقابل دعمه لمسيرتها المهنية. يسلط النص الضوء على سلطة المال والنفوذ في تشكيل حياة الأفراد، خاصة النساء، ويثير تساؤلات حول دور المرأة في المجتمع وأخلاقيات العمل في مجال الصحافة، متسائلاً عن مدى شرعية استغلال موهبة امرأة لتحقيق مكاسب شخصية.
ويقول:
…” لكن صديقه البقال رفض بشدة .. واعتذر له ، وأقسم يمين طلاق بأنه ماكان ليصدق فيه مثل هذه الأشياء ، رغم علمه بأنه يشرب الخمور ، ولم يره يصلى معهم فى المسجد طوال حياته لاجمعة ولا سبت ، وسمع مرة من بعض شباب الحى أنهم يقولون عنه إنه شيوعى .. لكنه لم يكن يفهم معنى الكلمة .. وحين قالوا يعنى كافر ومش مؤمن بربنا .. صرخ فيهم وطالبهم بأن يتقوا الله .. ودافع باستماتة عن صاحبه وعن أخلاقه . ورغم أنه لم يكمل تعليمه لكنه كان يؤمن بالفطرة أن العلاقة بين الإنسان وربه لا يجب أن تخضع لأحكام الناس ، وأنه ليس من حق أحد أن يفتش فى ضمائر الأخرين أو يشق عن قلوبهم كما يقول إمام المسجد …”
هنا نرى قمة التسامح وقبول الآخر مهما اختلفت معتقداته وعاداته.
في الفصل ٣٠ ، تنتهي الرواية إلى مشهدين هم الأهم في مسيرة عفاف؛ يقول الراوي:
“…ومضت عفاف فى خطتها لتحقيق حلمها القديم المتجدد بأى ثمن .. واضطرت وهى التى كانت قد أخذت على نفسها عهدا بعدم الرضوخ لرغبة رجل فى الإقتران بها سرا، إلى قبول عرض بالزواج العرفى قدمه لها قيادى بارز بالحزب، هو في نفس الوقت ملياردير من مليارديرات العهد الجديد ورجل أعمال مرموق .. وارتضت أن تكون زوجة ثانية له فى السر ، لكنها لم تعدم حيلة فى تسريب خبر الزواج إلى إحدى صحف النميمة التى انتشرت فى مصر كالسرطان اللعين…. ”
تلخص هذه الفقرة قصة امرأة استخدمت أي وسيلة لتحقيق طموحها، حتى لو تطلب الأمر التضحية بالقيم الأخلاقية.
وتنتهي الرواية بقول رفعت، م. (2023)،:
“… وتحولت المرأة سيئة السمعة إلى سيدة مجتمع، نجمة متألقة فى سماء الصحافة .. ونجحت بدعم من زوجها ” العُرفي” الذى تحول إلى زوج رسمى فى الفوز بعضوية مجلس الشعب، لتتمتع بالحصانة البرلمانية، وتقدم أخطر الاستجوابات ، وأكثرها إثارة للصخب والجدل .. ولم تعد تعبأ بشئ أو بأحد، بعد أن أسكرتها شهوة السلطة والثروة والنفوذ .. وأصبح رفقاء وأعداء الأمس .. على السواء .. يخطبون ودها ويتملقونها ويطلبون منها الرضا والسماح ..لكنها ظلت أياما كثيرة تقوم من نومها مفزوعة وهي تشاهد نفس الحلم.”
نرى هنا تحولًا دراماتيكيًا لامرأة من الهامش إلى القمة، وكيف أن هذا الصعود السريع جاء مصحوبًا بصراع داخلي بين الطموح والخوف والذنب.
وهكذا تنتهي الرواية حلمًا إلى ما بدأت به على غرار نهاية رواية ” مزرعة الحيوانات” لجورج أورويل ، حين استرق حيوانات المزرعة السمع، وتلصص البعض نوافذ بيت المزرعة، ولم يستطيعوا التمييز بين البشر والحيوانات، فقد انتهك الحيوانات كل الوصايا التي من أجلها قامت الثورة، فقد كان في اللاوعي الواعي جدًا لدى عفاف ثورة لا تكاد تخبو ضد ماضٍ ملوث لعائلتها، ورثته، رغمً عنها، فلوَّث وعيها، واللاوعي لديها، ولمَّا يزل.
تحليل الشخصيات:
شوكت:
مقارنةً بسرديات محفوظ، ن. (1956)، تتطور شخصية ‘شوكت ‘ عبر محفوظ، ن. (1956) لتكشف جوانب متضاربة في نفسية الإنسان. فبينما يبدأ كشخصية طموحة تسعى للتغيير، ينحرف تدريجيًا نحو الاستغلال السياسي، مما يجعله يشبه ‘سعيد مهران ‘ في الرغبة في التغيير، ولكنه يختلف عنه في الوسائل والأهداف. كما يختلف عن شخصية ‘الشيخ متولي، في رواية” الشيخ متولي” في تمثيله للسلطة الزمنية بدلاً من الروحية. وهي رواية تركز على حياة شيخ مسجد في حي شعبي فبينما يشترك مع شخصيات مثل ‘سعيد مهران’ في الطموح للتغيير، إلا أنه يختلف عنه في الوسائل والأهداف. كما يختلف عن ‘الشيخ متولي ‘ في تمثيله للسلطة السياسية بدلاً من الدينية، مما يكشف عن تعقيد شخصيته ودوره في الرواية.
تقدم شخصية “شوكت” في الرواية صورة معقدة لشخصية مصرية تتأرجح بين التراث والحداثة، بين الثورة والتقاليد. يجمع “شوكت” بين سمات الشخصيات النموذجية في روايات نجيب محفوظ، مما يجعله شخصية مثيرة للاهتمام. يتناول النص تأثير البيئة الاجتماعية والسياسية على تشكيل شخصية الفرد، وكيف يتم استغلال الأيديولوجيات تحقيق أهداف شخصية. يسلط الضوء على الصراعات الأيديولوجية والاجتماعية التي شهدتها مصر في فترة ما بعد النكسة، وكيف أن الأحداث السياسية تؤثر على الأفراد وعقلية الجماهير.
عفاف:
تتناول رواية رفعت، م. (2023)، “رقصة اللبلاب” الصراع الأيديولوجي والواقع السياسي المعقد من خلال شخصية عفاف التي تجسد الصراع الداخلي بين الرغبة في التغيير والإحباط من الواقع، وتستلهم بعض تماسٍ مع روايات كلاسيكية مثل “1984 ” لجورج أورويل، حيث تظهر شخصية عفاف تشابهاً مع شخصية وينستون سميث، الذي ونستون هو شخصية ممزقة بين ولائه للنظام، و رغبته في التمرد، يسعى إلى الحرية والحب في عالم يرفضهما، في تورطها في عالم من المخابرات والمعلومات المضللة. كما تستعير الرواية من واقعية نجيب محفوظ في تصوير الصراعات الاجتماعية والسياسية. تقدم الرواية تحليلًا عميقًا للبيئة السياسية الفاسدة، وكيف يتم استغلال الأفراد لتحقيق أهداف سياسية ضيقة. كما تكشف عن الصراع الطبقي ودور المرأة في هذا السياق. تشجع الرواية القارئ على التفكير النقدي والوعي بأهمية الحفاظ على القيم الأخلاقية في عالم السياسة.
بالإضافة إلى التحليل النفسي، تقدم الرواية تحليلًا سوسيولوجيًا شاملًا للمجتمع الذي تعيش فيه عفاف. تتناول الرواية قضايا مثل دور المرأة في المجتمع، والطبقات الاجتماعية، والتغيير الاجتماعي، وتأثير الأيديولوجيات على الأفراد. تستخدم الرواية الرموز والتحولات، مثل الحجاب والمقهى والشباب، لتعكس التغيرات الاجتماعية والسياسية التي تحدث. من خلال مقارنة شخصية عفاف بشخصيات أخرى في الأدب، مثل زينب في رواية نجيب محفوظ، تبرز الرواية أهمية السياق الاجتماعي في تشكيل شخصية الفرد.
تتماس ” عفاف” مع العديد من الشخصيات الأدبية التي تعاني من صراع داخلي عميق، مثل شخصية “إسماعيل عبد الله” في رواية “الزيني بركات ” محفوظ، نجيب. (1974)، حيث يعاني من صراع بين هويته الدينية وهويته الوطنية؛ شخصية متناقضة ومعقدة، فهو شاب مثقف يتطلع إلى التغيير والعدالة الاجتماعية، ولكنه يعيش في عالم مليء بالفساد والقمع. يمثل إسماعيل جيلًا جديدًا من المثقفين المصريين الذين يحاولون التوفيق بين طموحاتهم وأحلامهم وبين واقع مجتمعهم المتردي. يتأرجح بين الثورة واليأس، بين الأمل والخوف، مما يجعله شخصية مثيرة للاهتمام ومحورية في الرواية.
ومن وجهة نظر نقدية محايدة تمامًا، تنجح رواية رفعت، م. (2023)،”رقصة اللبلاب” في تقديم تحليل عميق للشخصية، عفاف، التي تجسد صراع الفرد بين الهوية والانتماء في سياق اجتماعي وسياسي متوتر. تعكس شخصية عفاف الحاجة الإنسانية الأساسية للانتماء إلى مجموعة، إلا أنها تقع تحت تأثير قوى خارجية تدفع بها نحو تبني أفكار متطرفة دون تفكير نقدي. يسلط النص الضوء على دور الأيديولوجيات في تشكيل الهوية الفردية وكيف يمكن استغلالها لتحقيق أهداف سياسية.
الخلاصة:
تعتبر الرواية عملًا أدبيًا متميزًا نظرًا لقدرتها على ربط الأحداث الشخصية بالتاريخية، وتقديم تحليل عميق للنفوس البشرية. كما أنها تساهم في فهم أثر الأحداث السياسية والاجتماعية على حياة الأفراد وكيفية تشكيل هوياتهم. بالإضافة إلى ذلك، تقدم الرواية نقدًا اجتماسيًا قيمًا، وتدفع القارئ إلى التفكير في القضايا المعاصرة وتأثيرها على المجتمع، فهي تقدم تحذيراً من مخاطر التطرف الأيديولوجي والتلاعب بالشباب. تشجع الرواية القارئ على التفكير النقدي وعدم قبول الأفكار دون تمحيص. كما تساعد على فهم الخطاب السياسي وتحديد الأهداف الحقيقية وراءه. تؤكد الرواية على أهمية الحفاظ على الهوية الشخصية وعدم التنازل عنها في سبيل الانتماء إلى مجموعة.
من الناحية الأدبية، تتميز الرواية بلغة سلسة وواقعية، جاءت مزيجًا بين العامية المصرية واللغة العربية، مما يجعل القارئ يشعر وكأنه يعيش الأحداث. كما تستخدم الرواية مجموعة متنوعة من التقنيات السردية، مثل الرموز والتحولات، لتعزيز المعنى.
هذه قراءتي للرواية، يمكن أن يكون هناك اختلاف في تفسير النص بين القراء، وهذا يعتبر جزءًا من قيمة الأدب.