كتب.د. أحمد صلاح هاشم. قراءة في رواية ( قنطرة إلى آباي..أم إلى الآخر؟)

لآفاق حرة

قنطرة إلى آباي.. أم إلى الآخر؟!
نظرة في رواية ميرفت البربري

بقلم. د. أحمد صلاح هاشم

كان العنوان “قنطرة إلى آباي”، وهو يثير جدليَّة منذ البدء بأسئلة، لعلَّ أيسرها: ما (آباي) هذه؟ وما المقصود بالـ”قنطرة”؟
إنه بوّابةٌ أدبيةٌ تفتح أبوابًا للتأويل، وتتأكد بها الهيمنة لميرفت على نصها، وصرفها عناء التبرير، وخلوصها من قضية استغباء القارئ، وتفسير كل مفسَّر.
ثم يتعجَّب متلقٍّ: أهذا تعرفونه (معشر النقاد) من كلمتين في العنوان، أم تتكلفون؟
الحقيقة أننا نبحث عن معاني الجمال، ونفتش عن مضامين الإجادة، قصدتها الكاتبة أو لم تقصدها. والنص صاحب التهويمات والرؤى والإسقاطات ووجهات النظر، هو النصّ.
المهم، القنطرة هنا ليست جسرًا ماديًّا فحسب، بل هي عبورٌ نحو الذات والماضي والمستقبل، فحين تتجلى لنا دلالات كلمة كلمة “آباي”، التي تتردد بين الهمزة والمدّ، ونعرف أنها اسم النيل في منابعه، فإننا نوقن بأن زخمًا للعنوان يحمل في طياته تنكيرًا يعمّق الإحساس بالرحلة، رحلةٍ لا تنتهي عند ضفةٍ واحدة، بل تمتدُّ لتشمل كلَّ ما هو إنسانيٌّ ووجوديّ.
هل هي رحلة إلى الجنوب مثل مسار هذا النيل المعانِد حيث النوبة وروائح البخور والحنطة؟ أم أنها رحلة مع النهر إلى المصب، إلى العيون الزرقاء والشعر الأشقر في الشمال؟ أم أن الرحلة معنوية مطابقة لرحلة أجدادنا المصريين، وأن القنطرة هي وسيلة عبور نعم، لكنها أيضًا تجسير للهوة، وسد ثغرة، وملء فجوة بروح وريحان وسلام نسعى جميعًا إليه، رغم التهديدات؟
فإذ جئنا إلى الإهداء وجدنا أن الكاتبة لا تتوانى عن إثبات شجاعة وجزافية، بجسارة في التكرار، تضع القارئ أمام عتبةٍ أخرى، عتبةِ الحبِّ الذي يبدو عامًّا، لكنه يحمل في طياته خصوصيةً عميقةً، كأنه استكمال للعنوان؛ فهذا النصُّ لكلِّ من عاش الحبَّ بكلِّ تناقضاته وألمه، إلى الخذلان والطمأنينة والاختلاف والتوافق؛ هل تريد الكاتبة أن تهمس في أذن قارئ واعٍ بأنك على وشك اقتحام القنطرة، التي تفصل ما بين الاختلافات، وتوحِّد وجهات النظر والألوان في بياضٍ صاف؟!

رشاقة السرد وثراء المعلومات

في بحر السرد الرشيق، تنسج الكاتبة شِباكًا من الخبرة والرمزية، ثم تصيد ولا تفتعل؛ تمسك بتلابيب النصِّ بقوة، دون أن تفقد السيطرة على خيوطه المتشابكة. نجد هنا رموزًا متعددة، من علبة “ريد بول” التي تحمل دلالاتٍ اجتماعيةً وسياسية، إلى حكايات النوبة والنيل التي تنسج خلفيةً تاريخيةً وثقافيةً للرواية، إلى المركب الذي بدأت به القصة، والمراكبي العابر، ومنطقة شبرا الخيمة، مرورًا بالساعة الروليكس، والملابس الجهادية، والأسماء التي تحمل دلالاتٍ عميقة، مثل “محمد فاضل صالحين”، الذي يبدو كأنه تجسيدٌ للفضيلة والصلاح، أو “هيثم شاكر”، الذي يحيلنا إلى المغني فضل شاكر، وكأن الكاتبة تريد أن تقول إن الفنَّ والحياة متداخلان في نسيجٍ واحد. وكأنها تهمس: “الأسماء ليست مجرد حروف، بل هي أرواحٌ تحمل في طياتها أسرارًا لا تُحصى.”
باختصار النص زاخم بأسراره، وهي بذلك ترسِّخ البنيةَ البحرية في الكتابة، التي يحوي باطنها لآلئ وأصدافًا وجواهر، لا تستبين لمن يستمتع بالسباحة، وإنما تحتاج للغوص مرة بعد مرة.
في تفاصيل الأحداث، نجد منطقيةً تدفع القارئ إلى التأمُّل، ولا تفوته دلالاتها العميقة. خذ على سبيل المثال مشهد التراب الملتصق بقميص إياد وتنفيضه، يبدو للوهلة الأولى بسيطًا عفويًّا، لكنه يحمل في طياته دلالاتٍ عميقةً عن التطهير والتحرر. كما أنه يثير مشهدية تصويرية ترفع من شأن الرواية بحث تقترب من الأعمال البصرية السينمائية، التي تساهم في إعادة الشباب إلى القراءة، في عصر التيك أواي ومقاطع “الريلز”!
الرمزية في الرواية، ليست مجرد زخرفةٍ أدبية، بل هي جزءٌ عضويٌّ من النص، فعلبة “ريد بول”، التي يطلبها الإرهابي “أبو عمر” من المغني السابق المتطرف الحالي هيثم شكري، على سبيل المثال، ليست مجرد مشروبٍ طاقي، بل هي رمزٌ للاستهلاك والتبعية الثقافية، وتعكس نوعًا من النفاق، والتناقضية.
حكايات النوبة والنيل تحمل في طياتها دلالاتٍ عن الهوية والانتماء، وكأن الكاتبة تريد أن تقول إن النيل ليس مجرد نهر، بل هو شريانٌ يربط بين الماضي والحاضر. كذلك، فإن حكاية الشاه وذي الكف الذهبية، التي تم تقسيمها إلى أجزاءٍ متفرقة، تضيف بُعدًا أسطوريًّا إلى جو الرواية..
وثمة مسكوت عنه كثير في أجواء الحكي يعكس دلالات رمزية أكثر حضورًا من حديث طويل، مثل “غرفة التعزير” التي تشبه كلمة “التعذيب” وفيها إشارة إلى الثقافة القمعية، والتسلط باسم الدين، وهو تأكيد لدور الازدواجية في تشكيل فكر أبناء هذه الجماعات.
من المتغاضى عليه المسكوت عنه في الرواية أيضًا إعلام ممدو الإيزيدي إسلامه ليحتفظ بزوجته (اعترف بذلك لهيثم شكري).
ويصبح بذلك من المؤكد أنه نصّ ذو خبرة، إذ إن كلَّ شيءٍ فيه له معنى، حتى الصمت.
كذلك، فإن حركة الراوي، رغم أنها تبدو متأرجحةً أحيانًا، تظلُّ مُحكَمةً في معظم الأحيان. وقد اختارت النمط البولوفوني (متعدد الأصوات) الذي تتعدد فيه الرواة، لكنها وضعت إلى جانب الأصوات الخاصة للأبطال، صوتًا عاليًا مسيطرًا، وهو صوت الراوي العليم، الذي يتجاوز حدود الزمان والمكان، ليعرف خفايا وبواطن الانفعالات، والمآرب والأهداف، والسبل!
ورغم أن الكاتبة حاولت كثيرًا الاختباء خلف شخصياتها، إلا أن طبيعتها الثورية التي لا تخطئها عين، يمكن أن نمسك بها متلبسة في ظهور صوتها أحيانًا، لتعبر بشكل واضح عما تريد إثباته في الرواية،كأنها تريد أن تذكِّرنا بأنها هي مَن تنسج هذه الحكايات.
مثل التحول المفاجئ من الضمير الذاتي الخاص المتكلم، إلى الغائب والخروج إلى الراوي العليم في حديث إياد(ص98)، أو الوصف المبالَغ فيه الذي لا يتناسب مع شخصية الراوي المصاحب للبطل (ص216). وكأن الكاتبة تهمس: “هل الراوي هو من يروي القصة، أم أن القصة هي من ترويه؟”.
ثم إننا بعد أن نشرب من ماء الرواية ونغسل أيدينا فيه، نصبح في حيرة أشدّ؛ إذ إن الخبرة الروائية لا تخفى، والمرامي أصبحت تحت الأقدام، فنتساءل: هل قصدت الكاتبة هذه الاهتزازات في ضمير الحاكي، أو حركة الراوي غير المعتادة، بوصف ذلك نوعًا من التنبيه، ووسيلة من وسائل إثارة الذهن، والحث على التورُّط في القراءة؟!

الخبرة الكبيرة والزخم المعلوماتي

في ثنايا الرواية، نجد زخمًا معلوماتيًّا غير عادي، من الإشارة إلى فتاوى منحرفة مثل: جواز ضرب الرجل لوالده، وأن الذين حرقوا أنفسهم مغفور لهم، واستخدام مصطلحات تحاول هذه الجماعات الاتكاء عليها، مثل (الفرقة الناجية)، إلى حكايات الإيزيديين، وصناعة الحلوى الكردية بتفاصيلها الدقيقة، وطبائع الشعوب (التونسي مثالا)، وحكايات تاريخية، مثل (جزاء سنمار) و(جلبهار والخان ذو الكف الذهبية)، حتى في أنواع الأسلحة، تتحفنا ميرفت بالإحاطة بها (الكلاش ذو النجمة المختومة على حافته أغلى أنواع الأسلحة) كلُّ هذه المعلومات ليست مجرد إضافةٍ ثقافية، بل هي جزءٌ من نسيج الرواية، تعمّق من أبعادها وتجعلها أكثر ثراءً وتعقيدًا.

الجندرية والصرخة النسوية

في عالم الرواية، تبرز المرأة شخصيةً قويةً وفاعلة. إننا نسلِّم بالفشل في العثور على شخصية مفعول بها وليست فاعلة، أو ضعيفة، حتى السبية جلبهار، لها شخصية وتوجه. وعلى ذلك أيضًا نسمة، وعلياء، ونهير، كلُّهنَّ شخصياتٌ ناضجة، لهنَّ رأيٌ ووجهة نظر، وكلهنَّ متمرداتٌ على أوضاعهن. الكاتبة تقدم لنا المرأة ليس كضحية، بل كشخصيةٍ قادرةٍ على تغيير مصيرها. ومع ذلك، هناك تساؤلٌ يطرح نفسه: هل تكتب الكاتبة عن النساء كما هنَّ، أم كما تتمنى أن يكنَّ؟ أين المرأة المظلومة في هذا النصِّ الذي يبدو وكأنه يرفع من شأن المرأة إلى حدٍّ قد يبدو مثاليًّا؟ وكأن الكاتبة تشير بوضوح إلى أن “المرأة هنا ليست مجرد شخصية، بل هي قضيةٌ وجودية.”
في “قنطرة إلى آباي”، تتجلى التناقضات الشعورية في نسيج لغوي أخاذ، حيث تتداخل الصور الحسية في نغم سردي مشحون بالفلسفة والعاطفة. ميرفت البربري لا تكتفي بنقل المشهد، بل تزرع فيه دهشة التأمل، فتجعل القارئ مشاركًا في رحلة وجدانية تتأرجح بين الطمأنينة والقلق، بين الحنين والخذلان، وبين لذة الإبداع وعذابه.

التناقضات في لحظة الفجر
ولأنني في هذا المسطح الكتابي أعتزم الإشارة أكثر من التوغُّل والتفصيل، فإنني لست معنيًا بتفسير كل العبارات الجميلة، أو التشبيهات الشعرية التي تستخدمها الكاتبة بلغة انزياحية في غاية الاتزان، لكن كما أقول دائمًا: “يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق”، فسأشير إلى لمحة، يمكن القياس عليها، وفي التلميح مندوحة عن التصريح:
تقول الكاتبة في ص132، على لسان إياد: “ليتني أعرف سر هذا الفجر، كيف يحمل خيطه الأبيض صفاء الروح جنبًا إلى جنب مع ما يحمله خيطه الأسود من رهبة، ورجفة لشغاف القلب…”
هنا، يتحول الفجر بفعل فاعل (نعرفه جميعًا) إلى كيان نابض بالحياة، يتنفَّس بصفاء وفي الوقت ذاته يرتعش بالخوف. إنه لحظة ولادة اليوم، لكنها ليست ميلادًا خالص الطمأنينة، بل تواطؤ بين النور والظلام، الرهبة والسكينة، الفرح والحزن. المفارقة لا تقف عند ثنائية الأبيض والأسود، بل تمتد إلى صور حسية أخرى، مثلما ذكرت الكاتبة في موضع آخر أن “رطوبة النسيم تسعر نيران الحنين”
ويكن التساؤل: كيف لبرودة النسيم أن تشعل نارًا؟ إنها صورة تجمع بين الضدين لتعبر عن الحنين، ذلك الشعور الذي يحمل في طياته الدفء والاحتراق في آن واحد.
“أغاريد الطيور تثير أعاصير الحزن”
من المفترض أن تكون زقزقة الطيور مبعث سرور، لكن الكاتبة توظفها كدافع لاستحضار الحزن الكامن، وكأن كل جمال في هذا الفجر يحمل خلفه ظلًّا من وجع.
“الندى الذي يتساقط على جسد الورد أحسه دمعات تساقطت من عيني”
هنا تتحول الطبيعة إلى مرآة للمشاعر الداخلية، فيصبح الندى دموعًا تتساقط من أعينٍ موجوعة، والوردة لا تعود مجرد زهرة، بل كائن متألم يتلقى هذه القطرات كعزاء حزين.
إنه فجر يحمل حالة تأملية فلسفية، حيث تتقاطع المشاعر المتناقضة، ويجد الإنسان نفسه في حيرة أمام هذه الازدواجية الكونية: لماذا يحمل النور والخوف معًا؟ لماذا تسكن الطمأنينة والرهبة في لحظة واحدة؟ وهو سؤال وجودي يتردد صداه في ثنايا النص.
أيضًا تصف الكاتبة وحدتها قائلة:
“وحدتي هي أكثر الزائرين تطرق بابي كل حين، لتأخذني إلى حقيقتي…” (ص148)
تتحول الوحدة إلى زائر دائم، حضور كثيف رغم صمته. لا تعكس الوحدة هنا فراغًا، بل تمنح الذات فرصةً للانكشاف أمام نفسها، فتغدو مرآة يرى الإنسان من خلالها كل ما فقده، كل من غابوا، وكل الذكريات التي ظل وفيًّا لها رغم خيانتها له.
وكذلك قوله: “أطل من بين تجاعيدها لأرى كل ما فاتني” التشبيه هنا مدهش، حيث تُشبه الوحدة بكائن ذي تجاعيد، كأنها كيان زمني متقدم في العمر، تحمله الكاتبة على كاهلها لتطل من خلاله إلى الماضي.
“أشاهد وداع من ودعوني” الذكريات هنا ليست مجرد صور ذهنية، بل مشاهد حية، تُستعاد وكأنها تحدث الآن، فيزداد الشعور بالخسارة حدّةً وألمًا.
“كم أنا وفية لذكرياتي معهم، وكم يخذلون حنيني لهم” هذه المفارقة تلخص مأساة الحنين؛ الذكريات لا تخون، لكن أصحابها يفعلون. إنه الحنين إلى من لا يلتفتون إلى الماضي، بينما تظل الكاتبة وفيةً لزمن انتهى وأناس مضوا، وكأنها تعيش في عالم موازٍ من الذكرى بينما هم في حاضر لا يعترف بها.
هنا، تبرز إشكالية التعلق بالماضي: هل الذكرى عزاء أم لعنة؟ هل الحنين نافذة للدفء أم سجن من الخيبات؟ إنها وحدة ليست مجرد انعزال، بل حوار داخلي بين الوفاء لمن مضوا والخيانة التي يواجهها من لم يعودوا يتذكرون.
كما تستخدم الكتابة كعلاقة إيروتيكية مستترة، دون أن تحتك به احتكاكًا يكلفها إعادة صياغة منظومتها الأخلاقية، رغم أنني ناقد لا يعترف بأدلجة الكتابة، وأظن الكاتبة كذلك، لذا تتسم كتاباتها بالمشاغبة، تقول في ص8:
“كانت ظروفه ككاتب بين غفوة وغفوة تهاجمه الفكرة، تغتال هدأته، وتأبى إلا أن تطارحه الكلمات، وتهاديه الحروف، ينتفض ملبيًا نداءها، ويهرع إلى الفراش الأبيض ليلقي عليه جسد الكلمات، بقطرات سوداء من دمع القلم”.
تتحول الكتابة هنا إلى علاقة حسية محتدمة، حيث لا تكون الفكرة مجرد خاطرة، بل مهاجمة شرسة “تغتال هدأته”، كما أن مفردات المطارحة والانتفاض، والتلبية، والهروع إلى الفراش، وجسد الكلمات، والقطرات.. كلها من معجم جنسي صارخ.

الوصف النفسي
في الرواية، يتجلّى التحليل النفسي العميق للشخصيات، حيث تتشابك التفاعلات الداخلية في نسيج معقد من الصراعات والانفعالات. إياد، على سبيل المثال، لا يُقدَّم كمتطرف بشكل نمطي، بل كشخصية تتأرجح بين الأفكار التي نشأ عليها وصوت العقل الذي توقظه تارا، مما يعكس الصراع الداخلي بين الموروثات الفكرية والتجربة الإنسانية.
كما تتجلى ازدواجية المواقف تجاه المرأة في طرح روائيّ جريء؛ فبعض الشخصيات تتشدق بحمايتها، بينما تمارس عليها أفظع أشكال الإساءة، في صورة تكشف عن عمق النفاق الاجتماعي وانفصام المبادئ عن الممارسة. هذا التناقض لا يُعرَض مباشرة، بل يتغلغل في السرد عبر مواقف تنطق بالمفارقة بين القول والفعل.
أما المشاهد النفسية الأكثر عمقًا، فتتجلى في شخصية أبي عمر، المتطرف الذي يعاني من ألزهايمر، حيث تمّحي تفاصيل حياته شيئًا فشيئًا، لكنه يحتفظ بصورة واحدة لا تتلاشى: اغتصاب زوجته أثناء حرب العراق – الكويت. هذه الذكرى الوحيدة التي تنجو من النسيان تمنح السرد بعدًا تراجيديًّا هائلًا، حيث يتحوّل الماضي إلى لعنة لا يملك الهروب منها، ويصبح ألزهايمر هنا عقابًا قاسيًا، لا بمحو الذكريات، بل بالإبقاء على أشدّها قسوة.

الشخصيات الناضجة والمتطورة

الشخصيات في الرواية ليست ثابتة، بل هي في حالة تطورٍ دائم. هيثم، على سبيل المثال، يبدو كشخصيةٍ محترمةٍ لا تلمس جلبهار بعد وعده لها، لكنه في الوقت نفسه يحب نُهَير إلى درجة العشق، وقد يكون انفصالها عنه سببًا في تطرفه.
هذه الثنائية في الشخصيات تجعلها أكثر واقعيةً وتعقيدًا. ومع ذلك، هناك بعض الشخصيات التي تبدو أقلَّ نضجًا، مثل إياد، الذي يبدو أحيانًا وكأنه يفتقر إلى العمق النفسي الذي تتمتع به الشخصيات الأخرى، مما يوضح أن الشخصيات هنا ليست مجرد أسماء، بل هي أرواحٌ تبحث عن معنى.

توسيع مساحات الجمال والخير والحق

الرواية تحذر الشباب من التطرف عبر عدد من الوسائل، فمرّة من خلال وصف حالة التناقض في الأفكار والفتاوى، وكيف أن بعض الشخصيات تتحدث عن الإسلام بينما هي في الحقيقة على النقيض. كما تقدم لنا الكاتبة صورةً قويةً عن كيفية استغلال الدين لأغراضٍ سياسيةٍ واجتماعية. وهناك أيضًا إشاراتٌ ذكيةٌ إلى تحريف المتطرفين لمفاهيم مثل “قتل النفس” أو “الطلاق”، مما يضفي على النصّ بعدًا نقديًّا لاذعًا، فتصل بذلك مرفت البربري إلى أن التطرف ليس مجرد فكرة، بل هو مرضٌ وجوديّ”
كما تتعمّد الكاتبة إبطاء السرد في مواضع الاغتصاب والعنف والقتل عند المتطرفين، والتركيز عليها بما يتيح استشناعها ورفضها.

بعض الملحوظات البسيطة

رغم كلِّ هذا الثراء، تظلُّ هناك بعض الملحوظات البسيطة، مثل التكرار اللغويِّ أحيانًا، أو التحول المفاجئ في الحوار من العامية إلى الفصحى. كذلك، هناك بعض التطويل في النص، مثل رسالة إياد إلى نهير (من ص165 حتى ص170)، التي تبدو وكأنها تثقل على السرد. وهناك أيضًا بعض الأخطاء اللغوية البسيطة، مثل استخدام كلمة “الإخراج” بشكلٍ مكررٍ في صفحة 17، أو استخدام كلمة “الغطرة” بدلًا من “الغترة” في صفحة 39. وكأن الكاتبة تهمس: “حتى النصوص العظيمة تحمل في طياتها شوائبَ صغيرة.”

وفي النهاية فإننا أمام قنطرة حقيقية، من كاتب متحقق لقارئ واعٍ، على درجة من الاستيعاب، عبر وصفة تفيض بالرمزية والعمق، وتداخل الصور، وتشكيل نسيج أدبي غني، فهي بالفعل رحلة لتأمل انفس والعالم، ورفض التغوُّل بكل صوره، التغول على مياه النيل، أو التغول على المسالمين الآمنين، أو التغول على الجسد الأنثوي، أو حتى على الأفكار.
ومع بعض الملحوظات البسيطة، تظلُّ هذه الرواية عملًا أدبيًّا يستحق القراءة والتأمل، وإعادة القراءة مرة بعد مرة.

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!