أحبّ نفسي؛ أكثر من أيّ نفس أخرى؛ ولست أنانيا؛ ولا نرجسيا. أريدني صديقا مع ذاتي؛ ذاتي أحقّ بصحبتي؛ وأحقّ بفرادتي. أفتح لذاتي ذاتي؛ أكلمها بي؛ وأحدثها بي وعني؛ وأترك لها حرية الإصغاء. حين أكتب أكتب لذاتي أولا؛ وأخيرا؛ وأقدم وليمتي لنفسي؛ أكون قد هيأتها على نار هادئة؛ أو جاءت سريعة؛ كحساء صحراوي؛ لا يعرفه إلا من عاشر البدو؛ وتعلم منهم الصبر وشدّة التحمّل. هذا الحبّ الأناني هو حافزي لأكون؛ كما أنا؛ أي أن أعيش في داخلي متصالحا مع ذاتي؛ رائقا في نجواي؛ وفرحا بسري؛ ولائذا بعلانيتي. حين أمدّ يدي للورقة؛ أبسط عليها دواخلي؛ لا استحضر أيا كان؛ ولا أعبر إلاّ مني إلي؛ أعيش طلائع وقتي في هروب يعانقه الغروب؛ أو أجيء مسربلا بيفاعة طفل يفاتك هبوبه نشوة الفجر. أنسج غياهب وقتي في أسمار ليلي؛ وأفترش عذراء نهاري لأكون أنا في كلّ أحوالي. أضيء باطني بما يكونه ظاهري؛ وإن أخفى عليّ منها شيئأ؛ تتركني عند باب ذاتي؛ أنتعل حروفي؛ وأغادرني إلى مرابع طفولتي؛ أو أطرق باب حلم استعصى عليّ تأوبله بين إخوتي؛ وتعرف عليه أبي في سره؛ حتى تبسّمت لي دواخله. في كثير من صمتي يكون كلامي؛ أتراشق به معي؛ تارة يمعن في انغلاقه؛ وأخرى يفتح أكمامه لي؛ وأنا مصرّ على التسارر معه؛ في شؤوني. أعرفني؛ حينها؛ مشاغبا لا يعبأ بحدود اللياقة؛ بل أفترس كلّ حدودها؛ في فضيحة تسرّ الناظرين. ذاتي؛ محض نبوءتي. فيها أترجم قرآني لي؛ وأتعبّد به في خلوتي؛ وأسوقه لأتباعي من مشاعر تكونني؛ وأشياع من مخاتل اللغة تترصدني عند كل تأويل يفتك بكل العلامات. هذه الذات لي؛ ولي أرضي التي أكبر عليها؛ ولي ضوء؛ يكبر أو يصغر؛ في عيون غيري؛ لا آبه به؛ ولي سلالات من أحفادي آتية من أقداري خارج قدري؛ تعرف خطوي؛ وتتقفى أثري. تلك ذاتي؛حرة؛ من كل قيود غيري؛ بها أعبر مقدار تحرري من عدمه إذ كلما سبحت فيها؛ كما أنا؛ وجدت أنفاسي تنتظم مع دقات قلبي. كأني عصفور في فننه؛ وإن كان خلاء أجرد؛ أمحل؛ حرا؛ طليقا؛ يعرف موطنه ومرجعه…
تقول حبيبتي… ذاكرتي الفضة؛ تمشط حمامتان ريشهما على تراتيلها. وتكشف للنعناع وهج خطواتي حين أكبر في أسطورة الشك. موتي يلغي موتي؛ وحياتي يقين لا ينحدر. أشهرت تاريخي في وجه المحو؛ وانتعلت السر كي أرى فردوسا من أقصى الحنين. تقول حبيبتي… أسعفني برش سنابل الوقت على عطر أمي. ففيه نقش عرشي بكف رجل تشبه شامة على خدّ صبح؛ مازالت ترائبه تتغذى من مشيئة الليل. رأيت طريقي مدركا بمعناك؛ وأهدى وجعي سر الماء. أنا امرأة ترعاك سرا. أنا لو شئت سوسن انتمائك. تقول حبيبتي… إن شئت زرعت أوردتي حبقا يشرق لك. وإن شئت ملأت قلبي بغيابك وقتا يزهر في وقتك. وإن شئت أحرقت أسئلة الماء في نبضي وأترعت باب الحلم للمنفى كي أراك في قلب المعجزة. وإن شئت أفردت ذاكرتي بالسفك حتى لا أشرك بك. تقول حبيبتي… فتشت عن شامات على خدي كانت تنتظم فوضاك؛ ومنحتها حرية التفرغ للهبوب القادم من نشيد تركته صغير كالحلم بين الأقداح والألواح. لا أنسى صيفا غجريا كالأندلس كنت فيه مهراقا بين ضلوعي تنتشي كالكوثر. وتصبّ روحي دالية تعلمني كيف أحيا بك أكثر. تقول حبيبتي… هكذا أرسمك؛ كالطفلة؛ تباريح الذاكرة على وجه المطر؛ وأصطفي غيمة الشوق مركبا إليك؛ والليل بارد والحلم اصطك وازدجر. وكل حماماتي تطير حينا من الدهر؛ وتحط على الجرح معفرة بالأنين والضجر. ما بالي أشهد أن العنب من دونك منطفئ كقنديل تبلّل برماد الصبر…؟
إسماعيل هموني / المغرب
أستاذ باحث في البلاغة والنقد الأدبي *