يعتبر أدب الرسائل أحد الألوان الأدبية التي راجت في الماضي، لكنها للأسف لم تعد تلقى ذلك الرواج في زماننا هذا، الذي انتشرت فيه الأجهزة الذكية والشاشات المضيئة، التي أطفأت شعلة الإحساس والبيان والإبداع.

ولكن أهمية وعراقة وشهرة هذا اللون الكتابي لا يمكن الاختلاف عليها. فقد شكلت الرسائل بين الشعراء والادباء رافدًا مهمًا، واحتلت منزلة ومكانة رفيعة لدى الناس بمختلف مستوياتهم الفكرية والثقافية، لما اتسمت به هذه الرسائل من خصائص فنية أدبية، وما فيها من إبهار ودهشة، حيث الكلمات التعبيرية البعيدة عن التصنع والتكلف والمجاملة والتعقيد. وما زخرت به من المشاعر الجياشة الجميلة وروح الإبداع والحس الأدبي العفوي الصادق في كل حرف وكلمة.

ويحفل تراثنا العربي بالكثير من النماذج التي تدل على وجود وحضور هذا النوع الأدبي في الحقب الماضية المختلفة. وفي العصر الحديث اشتهرت رسائل جبران خليل جبران ومي زيادة، وأنور المعداوي وفدوى طوقان، التي كشفها الناقد المصري الراحل رجاء النقاش، وغسان كنفاني وغادة السمان، وأنسي الحاج وغادة السمان، وخليل حاوي وديزي الأمير وغيرهم. اما في العالم الغربي فقد اشتهرت رسائل سارتر وسيمون دي بوفوار.

وأدب الرسائل يظهر القدرات الإبداعية لمن يتعامل به من خلال أجادة التعبير وجمال البوح والتلاعب باللغة ومفرداتها كي يوصل أحاسيسه ومشاعره الداخلية النابضة.

وبكل تواضع أقول، أنني ممن يجيدون ويتقنون هذا النوع الكتابي، وما زلت أحتفظ بمئات الرسائل التي كنت تبادلتها مع العديد من الأصدقاء والصديقات، ومع كثير من أهل الثقافة والأدب، وكانت تحمل بين ثنايا سطورها الفكر الراقي والإحساس الصادق والطرح البديع والموقف السديد.

لقد كانت الرسائل فضاءً رحبًا للإنسان المبدع، يعبر فيها عن همسات روحه ونبضات قلبه، وما يعتلج في صدره من مشاعر فياضة منسابة، ويتبادل من خلالها الأفكار والرؤى مع مراسليه، وتتعانق على صفحاتها المهج والأرواح. بينما كانت رسائل العشاق والمحبين جمرات أشواق مضطرمة. وبهذا الصدد يخطر ببالي ما قاله الشاعر المهجري جورج صيدح حين وصلته رسالة من صديق عزيز :

قبلت في هوس حروفه كتابه/ إن الحروف لها شفاه تشتهى

ويعتبر الأديب اللبناني المهجري جبران خليل جبران من الأدباء الذين أثروا فن الرسائل عند العرب، بما تركه من رسائل لافتة، أثارت فضول الدارسين والباحثين، وولجوا عبرها إلى عالمه المليء بالأسرار. وقصته مع مي زيادة نموذج ومثال رائع للحُبّ النادر والعشق الفريد، في سير العشاق في التاريخ الأدبي العربي، بعيدًا عن السطحية والابتذال. وقد دامت هذه العلاقة الروحية بينهما حوالي عشرين عامًا، دون ان يلتقيا إلا في عالم الفكر والروح والخيال، ونما وترعرع حبهما من خلال رسائل ومساجلات فكرية وروحية الفت بين قلبين، فكانا أقرب قريبين وأشغف حبيبين.

وفي بلادنا أحسنت الأديبة ابنة الناصرة، رنا أبو حنّا، صنعًا بنشرها  وإصدارها كتاب ” رسائل حُبّ ليست من هذا الزمان “، الذي يشتمل على رسائل كتبها والدها المرحوم الكاتب والمحامي أنيس رشيد أبو حنّا، إلى أمها، وهي رسائل شخصية جدًا، في غاية الجمال والروعة والرقة والعذوبة، وتطفح بالعشق حتى العظم. ولنقرأ ما كتبته رنا عن هذه الرسائل، قائلة : ” قرأت الرسائل الإبداعية التي تفيض بالغرام والتوهج، وتصل القمة في بوحها الصادق، لم أشعر لحظة انني اتطفّل على أسرار شخصية، بل كنت اتجرّأ من عقدة الأسرار الشخصية، وأحسّ أنني اقرأ شيئًا باهرا في عرى قلب والدي الهادئ الثائر بالحُبّ فيما كان يلاحق به محبوبته “.

وهذه الرسائل تحمل قيمة كبيرة ومميزة، فيها نبض مشاعر وجيشان عاطفة، وتنقل صورا للعلاقات الاجتماعية التي كانت سائدة والحالة المادية الصعبة التي عانى منها الناس في تلك الفترة الزمنية.

وفي النهاية لا بد من الاشارة والتأكيد على اهمية هذا اللون الأدبي الرفيع والجميل والبديع، الذي نفتقده في أيامنا، والحث على الاطلاع على تجارب الادباء السابقين، والعمل على اعادته ليشكل مكانته مجددًا، ولكن السؤال المطروح : هل يمكن ذلك يا ترى..؟!. فلنحاول.