رسالة من الأرض وأخرى لها

 

آفاق حرة

رسالة من الأرض وأخرى إليها

بقلم. د. سلطان الخضور

 

      لم تكن الرسالة التي تلقيتها قبل أيام رسالة عادية، فهي المرة الأولى التي أتلقى فيها رسالة من الأرض, نعم رسالة موقعة من الأرض وبخط يدها وبالعربيّة الفصيحة. فقد أعتدت أن أخط رسالة سنوية أعبّر فيها عن مشاعري تجاه الأرض ومن أقام عليها, أما أن تخاطبني الأرض فهذا لم يكن في الحسبان.

     قلبت الرسالة عدة مرات, نظرت أليها مطوّلًا, قرأت التوقيع عدة مرات، فوجدته ممهورًا باسم الأرض, الأرض تراسلني!

    عدت إلى الوراء وتذكرت كلمات فؤاد حداد ” الأرض بتتكلم عربي, وقول الله, إنّ الفجر لمن صلاه ما تطولش معاك الآه الأرض ..الأرض .. الأرض, الأرض بتتكلم عربي ”   

        ومع أن الآه عكس ما قال فؤاد .. طالت .. لكن شيئًا من الحيرة لدي تبدّد حين تيقّت أن الأرض ما زالت تتكلم عربي, نعم, النهر والبحر والسّهل والجبل, كلٌ يتكلم عربي.

        لكن بقي من الحيرة شطرها الآخر، فكيف للأرض أن تكتب عربي, فسألت التاريخ فأجاب بثقة وثبات, أن التجمّعات الزّراعية في فلسطين, أقيمت منذ عشرة آلاف سنة قبل الميلاد ، وأن أريحا أقدم المدن على الإطلاق, وأن الكنعانيين عرب أقحاح, استوطنوا فلسطين منذ ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد وأن الكنعانيين تكلموا وقرأوا وكتبوا العربية، ورسموا حرف الضاد منذ كانوا وكان.

  قال الكنعانيّون هنا كنّا, هنا أقمنا, هنا زرعنا هنا حصدنا.

      فتبدد الشطر الثاني من حيرتي وأدركت أنّ من كتب الرّسالة هي الأرض ..نعم.. الأرض  تخاطبني, الأرض.. تكتب لي.

   قرأت  الرّسالة من جديد, قرأتها عدة مرات, فالأرض بصلابة وعزم وتصميم وإرادة وعهد ووعد وقسم قالت: أنها ستبقى تتكلم عربي, وأن عروبتها مقرونة بوجودها، فستبقى العروبة ما بقيت.

       وفي رسالة الأرض قرأت حيرة وعتاب, فكل عبارات الأمل التي احتوتها الرّسالة يعتصرها الألم، وعلى ظهرها ما  يثقل كاهلها, تودّ الأرض لو تلقي به أرضًا, وتطرحه بعيدًا وترتاح. عبارات أشارت أن الأرض مثقلة مكلومة, محرومة, مظلومة تنتظر تضميد الجراح.

      وملامح العتاب بدت واضحة بين جنبات الكلمات, ووجدت صعوبة في الرد على السؤال الذي ختمت به الرّسالة “هل ستكتب في يوم الأرض؟

       فاستجبت وكتبت:

   في يوم الأرض أرى صورةً لعجوز تغرس شجرة زيتون, شجرةٌ تعطي درسا في الانتماء, وأخرى لسنابل قمح هي شوكة في حلق الأعداء, وأتذكر شهيدًا مضى وهامته مرفوعة تستقبله ملائكة السّماء, أمهات ثكلى أدركت معاني التضحية يزغردن حين يزف الشهداء.

      أتذكر تراب الأرض ينبت سنبلة تحكي قصص البطولة والفداء, وامرأة تودّع فلذة كبدها وقد قضى يدافع عن حقل اللوز والليمون, امرأة ترقب طفلها يستمتع بالفَراش والدّحنون, وصورة لطفل يرفع علمًا خلف الجدار, وآخر يحمل حقيبته ويقسم أن يكمل المشوار, وشاب بيده يدفع جنديا مدججًا بالسّلاح, لا يربطه بالأرض سوى الكذب البواح, وينابيع ماء كانت تتدفق شوقًا وحنين بات يلازمها الأنين, كانت تحمل دفء المكان, جفّفتها يد السّجان, فجفت دموعها حرقة على غدر الزّمان.

         وفي يوم الأرض, أتذكر بيدر القمح والشّاعوب والمذراة, والحاكورة وحوش الدار, وأتذكر طفولة لم تكتمل, وجرحًا في القلب يعتمل, أتذكر أسيرًا غدره الزّمان فبات خلف القضبان, تهمته عشق الاوطان.  

      وفي يوم الأرض, أرى بوابات القدس مشرعة على السّماء تدعو الله, لعل الله يجيب الدعاء. وفي يوم الأرض يزداد الألم, ويتجدد الأمل.

 

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!