ذلك الألق العميق المتجذر في روح الهور ، عناق الضوء والماء وأمشاج الأصوات المختلطة ، التي تجسِّد نشيد الحياة في متاهة القصب والبردى العظيمة هذه ، والإمتداد البعيد لحسِّ الإنسان بالمأساة الإنسانية من هذا العالم الشائك المحيّر انطلقت الأسطورة السومرية الأولى ، ورحلة البحث عن الخلود ، واكتشاف الذات المسكونة بالبقاء ، وتلك المرحلة القادمة للوصول إلى روح النَّص الذي يثيرُ كُلَّ الماضي وذلك الإرث الحضاري الهائل الذي يمتدُّ بعيدا ً هنالك لاكتشاف ذروة الأشياء وذلك الوجد المتناثر المشبوب . سماء صافية ونجوم بيضاء لامعة ، بعيدة الغور وعميقة النظر إليها ، وهي تنعكس وترتجُّ على صفحات الماء في اللّيل ، الذي يقطعُ صمته نقيق الضفادع ، سمفونية الأصوات المختلطة المختفية عن العيون ، والتي تعبِّر عن ماهية الحياة وتنوعها وتفردها . والقصب عالم الحياة الذي يفرض حضوره العملاق على المساحات العظيمة من الماء ، ويتشابك مع فعل الحياة الإنسانية ، يعيدُ تشكيل التفاصيل اليومية ، ولا حياة خارج حدود القصب الكثيف الملتف ، والماء الذي يعَّمق وجوده وسطوته وحضوره الهائل ، والمضافات ذات الأقواس الضخمة المجدولة من القصب ، والحصائر التي تفترش الأرض وتغطِّي الجدران ، وبراعم النبت الغض الذي يغذي الجواميس ، وهو الحيوان الرئيسي في عالم الهور المشتبك مع رحلة الإنسان المتعبة المرهقة في الحياة . إنها رحلة رائع يشكِّلُ فيها القصب والماء توأم الحياة وثنائية التناغم والأضداد ، وسرّ جماليات هذه الحياة الفطرية ، التي يعيشُ فوقها سكَّان الهور بلذةٍ فائقة ، تدفعهم إلى الحنين القاتل حينما يذهبونَ إلى المدن البعيدة الواقعة خارج ملحمة الماء ، ثمّ في غمرة شغفهم المجنون يعودون إلى نبضِ حياتهم الحقيقي الذي يتفاعلون معه ويمارسون مع ضربات قوارب البلم والمشاحيف الخشبية فوق المياه العميقة . إنَّ هذا الكتاب الممتع ( المعدان عرب الأهوار ) الذي يقدمه الطبيب والرحالة الانجليزي ( ويلفريد ثيسغر ) ، هو امتداد لكتابه الأول الرائع ( رمال العرب ) الذي روى فيه رحلته إلى الربع الخالي حيث أقامَ خمس سنين . إنها رحلة المغامرة والمجازفة واحتمال الحياة الصعبة ، في تلك المساحات المائية الواسعة ، بين سكَّان قرى أهوار العراق في الجنوب ، التي تضبط حياتهم منظومة القيم والعادات والتقاليد والِّين الذي له الأثر الكبير في حياتهم الصعبة والشَّاقة التي يحتملونها بصبر وأناة كبيرين لأنَّهم لا يستطيعون أن يعيشوا خارج إطارها . حتَّى حينَ يذهبون إلى المدن يظلُّ الحنينُ يشدُّهم ويجذبهم للعودة إلى الأهوار التي ترتفع بيوتها فوق الماء ويعيشون من صيد السمك والطيور والبط البرِّي ويترجمونَ ضجرهم وقسوة أيَّامهم ، بما ينظمون من شعر شعبي يترنمون به في حالاتِ فرحهم وحزنهم وبكائهم على الذينَ يموتون أو يغرقون في الماء العميق ويمتاز هذا المؤلف بصدق تصويره ، وكتابته عن كُلِّ شيء في حياة أهل الهور الذين التقاهم وعاش بينهم ، ونقل عالمهم المائي إلى القارئ في كلِّ مكان . والكتاب رائع ولغته عذبة وجميلة وممتعة إلى حد كبير ، لولا بعض الهنات لأنَّ الكاتب انجليزي ويكتب من زاوية نظرته ، وتفاصيل رحلته إلى عالم الأهوار حيث الماء والقصب ، وأوراق البردي الغضّة الطازجة الطريّة . عالم مدهش ينقله بحرارة وصدق ، ويصف فيه حياة أولئك النَّاس الذينَ عاش بينهم كواحد منهم ، وفي ضيافتهم يقاسمهم طعامهم وشرابهم ، ويكتب عنهم بكلِّ حريةٍ وما حدث معه هناك بالضبط ، يتحدَّث عن جواميسهم وبيوتهم المصنوعة من قصب الهور ، وعن حيواناتهم التي يشربون حليبها الطَّازج ويستفيدون من روثها في إشعال أفرانهم التي يصنعون بها خبزهم اللذيذ اليومي ، هذه الرحلة إلى قريبة ( الجياب ) في أعماق الهور ، وإلى ( المعدان ) عالم عجيب من العادات والتقاليد ومناسبات الزواج والطلاق ، والنبض الإنساني الذي لا يتوقَّف وأساليب تنقلهم في بلماتهم ومشاحيقهم وقواربهم السريعة ، وهي الوسيلة الوحيدة للتنقل بين أرجاء المستنقعات الكبيرة . لوحات فاتنة ومدهشة كتبها عن قريتي الجياب والمعدان في قلب الأهوار ، المتلفعة بضباب الصباح ، والمغمسة برائحة القصب الغض ، وخيالات البلم والمشاحيف التي تنعكس على صفحات الماء ، وتبرز من خلال أردية الضباب الأبيض الذي يغطِّى حدود التخيّل ، ويندرج في اللاَّمعقول الإنساني . وقد أبدع وهو يصف صياح البط البرِّي ، وضرب المجاديف في الماء العميق ، وعيون الصيادين المترقبة وهم يختبئون بين ادغال القصب ، والمشهد يلوحُ رائعا ً وجميلا ً من خلال الضباب الصباحي الذي يغمر روح المكان ويغسله بالبرودة التي ترتعشُ لها الأطراف الممسكة بحواف المشاحيف المتأرجحة فوق أدغال القصب والطرفاء المتوحش في امتدادها اللاَّمتناهي . إنها صورة وصفيّة لا يبدعها إلا كاتب مجنون توغَّل بعيدا ً في اعماق القرى الفطرية وقدَّم هذه اللوحات الفاتنة السوريالية العابقة بأنفاس الحياة ، والإصرار على العيش رغم صعوبته ، دنيا صاخبة من السرديات والصور الوصفية ، والإعجاب المنقطع النظير ، نقلها هذا الكاتب الفنَّان بعين يقظة ٍ، وروحٍ متفتحةٍ للحياة تلتقط ادنى حركة وحادثة ومكانٍ كان يمرُّ بهِ وهو يتجوَّل بقاربه في قرى الهور . وكطبيب يعالج الفقراء والبسطاء من المرضى ، وكضيفٍ تذوب روحه في تفاصيل عالمهم يكتبُ عنهم ويقدَّم حياتهم الغريبة إلى النّاس في كلِّ مكان وزمان ، وبإسلوب رائع مليء بالمتعة والنشوة الفائقة يسردُ حكاياتهم ، ونوع العلاقات التي يمارسونها . لقد سَحَرَه الهور وفتنه تلك الرؤى القابعة في أساطير قصبه ، فكان هذا الدَّافع الغامض الخفي هو ما شدَّه إلى مجتمعهم البعيد عن الضوضاء والتعقيد الشديد في الحياة ، حيثُ هنا لا أسرار الكلُّ يبوح بما يعرف ، والنظام الاجتماعي صارم يعاقبُ الجناة ، ويحتفي بالرجال والنساء الكرماء الشجعان الذين كتب عنهم هذا الرحالة الفذ وأنصفهم غاية الإنصاف في كتابه هذا . إنَّها أحاديث شيّقة تمتِّعُ حواس القارئ ، فيشعرُ أنَّه يسمعُ ضربات المجاديف وأصوات الطيور وصياح الخنازير البريّة ، لأنّ لديه مقدرة وصفية مذهلة ، يندمج القارىء في تفاصيلها ، ويظلُّ يهلثُ وراءها حتَّى ينتهي من الكتاب وهو في قمة المتعة والنشوة والتذوق الحِسِّي .
>