بقلم :حمزة المليح
لكن هل يصح أن نشك في كل شيء ؟ وكيف يمكننا أن نعتمد على الشك كآلية ناجعة تحترم إيمان الفرد المسلم وترضخ في ذات الآن إلى سلطة العقل ؟ و أين مكان الضمير الأخلاقي في فلسفة الشك ؟ وهل كل شكاك “فيلسوف” في الأصل ؟ و كيف يعقل أن يخضع المخلوق الناقص خالقه الكامل إلى فلسفة الشك ؟ وإلى أي حد يستطيع العقل البشري أن يسبر غور الميتافيزيقا الإلاهية ؟ ألا نخرج العقل من عقلانيته حينما نتطاول على محدوديته الفكرانية وآفاقه التأملية بوصف ” كامل الأوصاف ” – الله – وصفا إنسانيا محدودا ؟
وهل إنتهت مهمة الفكر الفلسفي وانقطعت لكي يعمد بعض الملاحدة المغاربة من عملاء الفكر ” القشري” الصبياني إلى تحديد وظيفة الفلسفة في نبش الدين الإسلامي والضرب في مقاصده و مآلاته ؟
كل هذا الجدل القائم لا يلبي بالضرورة حاجات الفكر الإنساني ويرتقي به ، وإنما يزيد في عمق الفجوة الإيمانية لدى الشباب ” المسلم ” ، ويغدي بذلك طموحه المتهور لإثارة الجدل الصبياني الذي يحد من أفق تفكيره و يحبط من عزيمته التأملية . و لكن لم الشباب المسلم بالخصوص ؟
ذلك لما يحمله من طاقة مستفيضة وغنية بالتساؤلات الوجودية التي تشغل باله ، حيث تصبح عنده شهوة العقيدة والبحث عن الملاذ والطمأنينة النفسية بمثابة مخرج ومنفذ من الضغوطات السيكو-إجتماعية التي تحكم قبضتها عليه .
وهنا يأتي دور المثقف ، المربي ، الموجه ،الدكتور ، الذي يلعب نقطة فاصلة في البعد الفكراني للبناء الإبستيمولوجي لدى الطالب المغربي ” المسلم ” ، فعوض أن يقوم بتخليصه من حمى “عدم اليقين ” والبحث عن الحقيقة الجوهرية لطبيعة ممارساته الدينية ، نجد البعض من الفضلاء ” المثقفبن ” يحولون حماسته البريئة ، إلى جرأة شيطانية تسخر للضرب في دين الحق ، بحجة أن الشك معيار الوصول إلى الحقيقة .
و يقال حقيقة أن ” فاقد الشيء لا يعطي ” ، فكيف لمن ضل عن السبيل أن يهدي الباحث عن نور الحق ؟ وكيف لمن لازالت تذروه رياح الشك ، أن يخمد نيران الباحث عن جوهر الحقيقة الدينية ؟ وكيف للذي لم يكلف نفسه مشقة و عناء السفر في طرق و مسالك الإيمانيات أن يجعل الشخص ” القلق ” والمشوش مطمئنا هادئ النفس والضمير ؟
كيف لا وقد أضحى التهكم على دين الحق موضة جديدة يعتاش منها ” الزنابير” من بعض أهل العلم القبيح ، كيف لا وقد اختلط الحق بالباطل و امتزجت طلاسم الثقافة الموبؤة بممارسات الدين الإسلامي .
لكن هل يشفع هذا لهم جرأتهم الوقحة للتطاول على محكم التنزيل و التشريعات المتفرعة عنه ؟ و ما ذنب الفلسفة والعلوم الإجتماعية في هذا كله ؟
يقول المثل المغربي المتداول ” حوثة وحدة كتخنز الشواري ” فبسبب أعمال بعض من المتزندقة “الجهال” من أهل الفلسفة والعلوم الإجتماعية أصيب الفكر الفلسفي بطعنة غادرة من أهله ، فأصبحت الأحكام القبلية والتمثلات المتفشية في جسد المجتمع المغربي المنخور فكريا وأخلاقيا ، تتهم الفلسفة بكونها منبع الضلال ومنزلة السفهاء من طالبي العلم و المعرفة .
وأصبح الشباب الطلابي المغربي شبابا تائها ، يخلط بين الفلسفة و ” الفسفسة ” وأضحى عنده الشك مفتاحا لكل القضايا الفلسفية ، منصبا نفسه الفيلسوف الأعلى مالك الحقيقة و متملك الشرعية الفكرية لليقين المطلق والأبدي . وبهذا فقد الشك المنهجي الفلسفي وظيفته الأساسية ، وغايته السامية ، و تفشى الجهل وسادت الغوغاء .
إن المتأمل في تاريخ الفكر الفلسفي عموما ، سيجد بأن خيرة الفلاسفة العظماء قد أعطوا للدين مكانته الرمزية ، وأحيانا المخلصة كما نجدها عند القديس أغسطين او القديس توما الأكويني وغيرهما ، فالمسألة الفلسفية لم تكن باعثا ملحا للطعن في المسألة الدينية ( المسيحية ) وإنما كانت المحفز الأساس لبلوغ الحقائق ، فما بالك عندما نتحدث عن دين الإسلام ، منظومة الفكر و منبع الحضارة و التشريع المدني .
وخلاصة القول في هذا الباب الفسيح العظيم ، أن الشك منهج للتدقيق في من هو قابل للتمحيص ، و أن الشك المذهبي وسواس العقل القويم ، و أن تكون شكاكا فارغا من قواعد المنطق و أنوار الضمير الأخلاقي ، فأنت لست بفيلسوف ، والفلسفة هنا كما قال الدكتور مصطفى محمود رحمة الله عليه ” ستعكر أكثر مما ستصطاد ” ، وأن تتسخ الممارسات الدينية بالأضاليل الثقافية المستلهمة من سلطان العادات الفاسدة والتقاليد البالية ، لا يعطي الشرعية لبعض ” البعير ” المنفلتة عن عقال المعرفة الحقانية ، للضرب والطعن في دين الإسلام و ممارساته النبيلة .
والله أعلم ، وهو يهدي السبيل .